روايةُ محمد طرزي "ميكروفون كاتم صوت"، الصادرة حديثاً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، تدور أحداثُها هذه المرّة في لبنان لا في المحيط الزنجباري الذي دارت فيه روايات سبقَتْها للكاتب. ليس المحيطُ اللبناني وحده هو الحاضر في الرواية، بل الراهن اللبناني وأزماتُه الحالية، وفي مقدّمتها الانهيار الاقتصادي. العنوان يكاد يخرج من هذه الأزمة، فالميكروفون الذي هو آلة لإطلاق الصوت وتجسيمه، هو في العنوان كاتمٌ للصوت. يُمكنُنا أن نقول في العنوان، إنّه، بحدّ ذاته، أزمة، أو يصدر عن أزمة.
هذه المفارقة تطبع الرواية من بداياتها. رغم أنها تدور في واقع جَلِيٍّ، وفي ظرف ظاهر، إلّا أنّ حوادِثَها تحمل، في جملتها، ذاتَ المُفارقة وذات التأزُّم. لا نفهم فوراً لماذا تدور الرواية، في الجانب البارز بل الأبرز منها، في المقبرة. سلطان؛ بطل الرواية، نعثر عليه، منذ البَدء، في المَقبرة، وفيها يستقبل أصدقاءه، الذين هُم إلى جانبه أبطال الرواية: قاسم وحسن، وكلٌّ منهما يحمل مفارَقَته الخاصة.
مع ذلك، لا نفهم جليّاً، ماذا يفعل سلطان، وماذا يفعلون معه في المقبرة، ولماذا المقبرة نفسها؟ نستشفّ أنّ سلطان يعمل في المقبرة دليلاً لها. إنّه هناك يعرف كلَّ قبر، وصاحبه، وموقعه في المقبرة، ويدلُّ إليه مَن يفدون لزيارته، والترحُّم عليه. مهنة الدليل هذه ليست مألوفة جدّاً في مقابرنا، لكنّ الابتداء من المقبرة، في رواية تدور في الظرف الراهن المليء بالمفارقات الفظيعة، والذي هو بحدِّ ذاته انهيارٌ كامل، هذا الابتداء هو نوع من الهبوط الى الحضيض، في واقع صار بكامله حضيضاً.
يقابِل البحرُ المقبرةَ ليغدو في النهاية نظيراً لها
ليس هذا وحده، فالمقبرة باشتمالها على ما يمُتّ للموت، إنّما هي كنايةٌ عن واقع يجفُّ من داخله، ويتقهقر في ما يشبه الانعدام واليَباب، أي بكلمة أُخرى: الموت. نحن هنا في فقدان متدرّج لعناصر الحياة، في نوع من التيبُّس والجفاف والتلاشي، أي ما يُستعار له الموت والمقبرة. هكذا نجد أنّ روايةً تُقابل واقعاً مُظلِماً، أو تستعيد كارثة متجدّدة، إنما تستعير لهذا كلّه صورة مُماثلة، صورة هي من الأدب والبناء الأدبي. هكذا تغدو المقبرة أكثر من واقع، تصير استعارة كُبرى وصورة مُقابلة، أي تصير رمزاً.
من الناحية الثانية، نجد صورةً مقابلة للمقبرة، إنّها سفن الهجرة السرية ومُلابَسات هذه الهجرة، التي تمرُّ باحتيال المُهرِّبين وسرقاتهم للمساكين اللاجئين، لتنتهي بغَرَقِهم هُم وعائلاتهم. هذه الهجرة السرية، التي هو نوع من حياة زائفة، تقابل المقبرة لتغدو في النهاية نظيراً لها؛ إذ إن الغرق الذي يتهدّد المهاجرين هو أيضاً موتٌ آخر، والبحر يغدو به نوعاً من مقبرة. هكذا تغدو الهجرة، على هذا النحو، استعارةً كبرى، تغدو صورةً مُقابلة، أي تغدو رغم واقعيتها الشديدة رمزاً.
بوسعنا، هكذا، أن نحصر الأزمة اللبنانية بين صورَتين مُتوازيَتين ومُتقابلتَين، المقبرة والبحر القاتل. أي مقبرة البرّ ومقبرة الماء. نحن إذاً بين مقبرتين. إذا علمنا أنّ بطل الرواية سلطان، وهو دليل المقبرة، هو أيضاً إلى جانب هذه المهنة روائيٌّ ومثقّف، هذه المفارقة تشمل آخرين غيرَه، إذ نجد أنّ هذا التركيب المتضادّ يلحقُ صديقَيه حسن وقاسم، حسن بخاصةٍ يبدو أنّ له شخصية نابعة من هذا التضادّ، كما أنّ صاحبة الملهى اللّيلي الذي يستقبل بائعات هوىً، لا نلبث أن نجدَ في المرأة التي تُديره فنّانةً، ونكتشف أنّ لها روحاً نبيلة.
الأمر ذاته ينطبق على آخرين، حسن أوّلاً. هكذا نجد أنفسنا أمام شخصيات واقعية، بقدر ما هي روائية وأدبية؛ أي أنّ دليل المقابر الروائي، ومديرة الملهى الفنّانة، واللّصّ النبيل، مع آخرين وأُخريات من نفس النمط، وذات السموِّ على مهنهم وواقعهم، هُم ينحطّون عن واقعهم وأُصولهم، بقدر ما يخرجون عليها.
الرواية هي هذا التركيب والتضادّ والمفارقة الداخلية. الرواية هكذا تروي الواقع بقدر ما تُعيد اكتشافه، وبقدر ما تُحوّله إلى استعاراتٍ مُظلمة تملك في داخلها سموّاً عن نفسها وخروجاً عليها. رواية محمد طرزي هذه المرَّة ليست عن زنجبار، إنّها عن لبنان وربّما عن بيروت، لكنّ الواقع اللبناني وأزمته الراهنة مرسومان بقدر من التغريب والترميز، والاستعارة الأدبية مرسومة فعلاً في رواية، وتجد لنفسها كياناً روائياً.
* شاعر وروائي من لبنان