بين الفلاسفة الأوروبيين الذين يتبنّون الرؤية أو المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي)، يحتلّ الفرنسي ميشيل هنري (1922 ــ 2002) مكانة خاصّة، حيث كان من القلائل الذين خرجوا عن المقولة الفينومينولوجية الأولى التي جاء بها مؤسّس هذا المذهب، النمساوي إدموند هوسرل، والتي تفيد بأن الوعي هو بالضرورة وعيٌ بشيء ما، أي أنه إدراكٌ لمعطى خارجيّ نتعرّف إليه بالحواس.
بالنسبة إلى هنري، يأتي الوعي بالذات قبل الوعي بأيّ شيء خارجي، وهو وعيٌ لا يمثّل تنويعاً على ذلك الذي نقارب به العالَم الموضوعي، فلو فعلنا كذلك لصرنا ننظر إلى أنفسنا كأشياء، وهو ما يخالف تجربتنا عندما نعي أنفسها. النظرة الفلسفية الحديثة، التي تعود إلى الذات بعد المرور إلى الأشياء، ليست إلّا إعادةً في خطاب فلسفي لخطاب العِلم، الذي يميل إلى تغريب الذات وتشييئها، ومعها العناصر المؤسسة لها، وأبرزها الثقافة.
عن دار "الساقي" في بيروت، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب هنري "الهمجية: زمنُ عِلمٍ بلا ثقافة"، بتوقيع المترجم جلال بدلة، وهو عملٌ صدرب بالفرنسية عام 1987، وفيه يوجّه صاحب "فينومينولوجيا الحياة" نقداً مفصّلاً ورصيناً للتقنية، بوصفها محرّكاً للعِلم الحديث، وممحاةً هائلة لا تتقدّم من دون أن تمحو ما هو وجداني، وأخلاقي، أي ما هو ثقافي.
يرى ميشيل هنري أن العِلم الحديث انبنى على أساس مُعارضة للثقافة، فهو يسعى إلى إيجاد حقائق كونية، بل وإلى ابتكارها وتكريسها، ما ينتهي، في آخر المطاق، إلى المساس بالاختلافات بين الرؤى عند الناس، وإلى التقليل من شأن المحسوس، والتجربة الذاتية. مسارٌ أدّى، في رأيه، خلال القرنين الماضيين، إلى تهميش أساسات الثقافة والاختلاف، ومن هنا عنوان كتابه واتهامه للتقنية العِلمية بـ"الهمجيّة".
في نقد هنري للعِلم والتقنية إعادةُ صياغة لنقده للفلسفة التقليدية، أي تلك التي تقول بأولوية الموضوعية على حساب الذاتية، أي بأولوية الحقائق "الكونية" على تلك الفردية، وهو ما يعني نفياً للحياة نفسها، باعتبارها تجربةً محسوسة وشديدة الذاتية. ومن هنا يأتي مقترحه بتغيير نقطة الانطلاق التي نبدأ منها، أي أنه يدعونا إلى البدء بفلسفةٍ للذات، تأخذ بعين الاعتبار أبعادها الثقافية والأخلاقية، من دون أن يعني ذلك نفياً تامّاً للعِلم، بل تحديداً وتحجيماً لدوره، بما يحول دون جرّه البشرية إلى مناطق الهمجية والعنف.