مونولوغ شخصي

01 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنان الفلسطيني أحمد مهنا
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصص الحرب والمعاناة**: تروي النص قصصاً مؤلمة عن فقدان الأحباب والغربة، حيث تتحول العائلات إلى أشلاء ممزقة، ويعيش الناس في حالة من القهر والغضب وسط الدمار.
- **الأمل في الأم**: الأم تمثل مصدر الأمل رغم الظروف الصعبة، حيث يخاف الكاتب عليها من المرض والموت، ويجد في حضنها ملاذاً من أهوال الحرب.
- **تدمير الحرب لكل شيء**: الحرب دمرت التاريخ والعائلات، والكاتب يوجه رسالته للعدو والسياسيين لإنهاء الظلم، معبراً عن توق أبناء الحرب للحب والسلام.

في زمننا الأهوج، تعتقدون أنّي أقف أمامكم لأسرد لكم ما يجري حولنا، فأحصد العدد الأكبر من المتابعين ويغمروني بإعجابهم! لا..

حياتنا اللاعادلة المليئة بالقصص اللامعقولة أرويها لكم، وهي التي أجبرتني على المثول بينكم خاضعاً لمشاعر مؤلمة،

لن أتوقع منكم أن تكونوا تنتظرون عنصر المفاجأة!! فماذا ستسمعون؟ ماذا ستسمعون من شخص فقَد أحباباً في هذه الحرب المجنونة الصعلوكة، وغادرته قطعٌ من قلبه نحو الغربة عن الوطن.

لا أدري هل أبدو متوتراً أم أنتم المتوترون بسبب ما ستسمعون، وأرى في عيونكم تلك النظرات التي تقول: إنه مشروع شهيد.. إنه يقف على المسرح، وفي النهاية سيموت. فهل أبالغ حين أخبركم، ليتكم تشترون تذكرةً لحضور فيلمٍ من الخيال العلمي، وسوف تصدّقون.

لن أروي لكم قصة بطلٍ مغوار، فكلّ من سأتحدّث عنهم هم من الأبطال، بل هم الكابوس لعدوٍ يشبه دراكولا؛ مصاص الدماء. إياكم والاعتقاد أنني أحتفظ لنفسي ببعض المواقف الغريبة... لا. لست من هؤلاء، بل أنا أمامكم أتفجّر كفوهة بركان ترمي الحمم، فهل أنا برميل ديناميت ينفجر على مبنى تحصّنت فيه الأم وأولادها والأب، يحاولون أن يجدوا منفذاً لنجاتهم، غير أن العائلة تتحول لأشلاء ممزقة، ويأتي قريبهم ليجمعهم وهو يصرخ كطفلٍ صغير، يجمعهم متهالكاً من هول ما رأى فلا شيء أكثر وجعاً من أن تجمّع أعضاء متناثرة لجثث موتى الحرب، جمعهم في كيس واحد، لكم أن تتخيّلوا في كيس واحد جميعاً مع أحلامهم وطموحهم.

هل أبالغ حين أخبركم، ليتكم تشترون تذكرةً لحضور فيلمٍ من الخيال العلمي، وسوف تصدقّون

لا تقل لي ليس من الطبيعي دفنهم بهذا الشكل اللاإنساني، فكلّ شيء أصبح غير طبيعي وغير إنساني، في هذا الوقت، لبشرية أخلاقها مشوّهة. لا تطلبوا أن أروي قصتي وكأنها قصة قبل النوم، فتطلبوا مني أن أبتعد عن التشنجات العصبية.

إياكم! دعوني أكمل، فأنا مقهورٌ، مسحوق.

■ ■ ■

قبل هذه الحرب المجنونة، كنتُ أعتقد أنني كبرت وبدأت أفهم كلّ شيء ولكنني تيقنت أنني لم أعد أستوعب شيئاً.

إليكم القصة الأهم، أبدأ بأمي، أنا في الثالثة والخمسين من عمري ولكنني أحتاج دوماً لحضن أمي حتى وإن كانت كبيرة في السابعة والتسعين من عمرها، ولكنني كلما سمعت صوت زنانة لعينة، كان قلبي يرتعش علي أمي، فأغمرها بنظراتي الحزينة خوف أن يصيبها المرض أو الموت، وأكره حتي خيالي حين يصور لي أشياء أخافها عن رحيلها. وأقترب منها، ولكنني مخادع فأنا من يريد أن يختبئ من أهوال الحرب في حضنها الحنون، وهي تدعو الله أن ينصرنا، هل تفهمونني؟

أمّي هي وحدها سر عدم فقداني للأمل بانتهاء هذه الحرب الرعناء.

كنت أُلقي على مسامعها النكات والضحكات، ولكن لو نظرتم في عيوني وتجولتم في خاطري، ستتيقنون أنني لا أخبركم بكلّ ما تريدون سماعه، لأنني باختصار لا أقول لكم إنني أرتعش، وإن تعمقتم في عيوني ستجدون فيها دموعاً تحجرت ترفض أن تبوح بكلّ شيء.

انظروا في عيوني، وربما يمكنكم الوصول لأعماق أعماق ما أشعر به، وربما تعرفونه، وربما ما مررتم به هو أشد قسوةً مما مررت به أنا.

ذهب كل شيء ولم أعد أنا أنا.

مررت بخيمة المعلمة دعاء، وهي تعلّم أطفال الحرب الأحرف الهجائية وأحببت أنها لم تلغ حرف الضاد

عيوني صحراء قاحلة وشخص لم يعد هو. نعم، فأنا بينكم ما زلتُ لكنني شبحٌ لشخص لم أعد أعرفه، لا هو ولا هويته ولا زمانه ولا مكانه. اقتلعته من الحرب الغبية لأني أرفض أن يعيش هو داخلي فقد ذهب كل شيء وبقي هو! فليذهب للبعيد، ربما البعيد الهادئ الآمن بتفاصيل دقيقة لا يمكن تجاهل كم أحتاجها.

■ ■ ■

كانت المدينة بعواصفها الرعدية والحنين والموسيقى تدعو للسلام، فجاء التتار وقتلوا السلام.

وبما أنني أنا هنا لأسرد لكم القصص فإليكم قصة أخرى:

قالت لي زوجتي: فلنرحل فاذا لم يهجم علينا الموت فإن المجرم سيضع الملح على جراحنا، ويجبر مسامنا على أن تستنشق غبار الردم، الذي أنهى كل ما هو حولنا حتى تاريخنا.

أجبتها: الحرب ليست للنساء سأتركك تنجين وأبقي أنا مع موتى الحرب. 

جعلتها وأبنائي ينجون، فأنا ما زلت أسمع أنين ابن أختي الشهيد وزوجته الشهيدة، أسمعهم وهم يحتضرون حين باغتهم المحتل وقتلهم بدمٍ بارد، وهم يحملون الراية البيضاء تعلّقاً بالحياة لينجوا طفلهم المعاق، الذي أصابته شظية فاضطروا لاقتلاع عينه بلا مخدر، فالمستشفيات لا يوجد فيها ما يخفف قسوة الألم، وبقي ابنهم وابنتهم يتيمين، ولم يكتفِ المجرم بل عاد وحرَق بيتهم.

نعم. صرختُ بزوجتي وأبنائي: ارحلوا بعيداً عن مدينة الموت والجثث والدمار، وجراح وإصابات بليغة قاتلة تركتهم يرحلون وقضيت أيامي أدفن الجثث من حولي وأتقيأ طوال الوقت.

فما رأيته يفوق قوة تحمّلي البشرية.

أراكم تريدون المزيد.. حسناً

أبي.. هل تعلمون من هو؟ أريد أن أخبركم أنه رحَل عن دنيانا منذ زمنٍ بعيد، ولكنه حضر معي هذه الحرب الدموية، نعم كان معي وشهِد الحرب أيضاً معي.

قال لي يوما: كن رجلاً وقم بعمل الأشياء التي لا تحب أن تعملها، وإن كانت خطيرةً ومؤلمة ومخيفة وبل ومجنونة، فأنت ولدت وتعيش مع سموم المحتل. وستمر بحالات من اللاوعي، فأنت لن ترى ما رأيته أنا ابن النكبة، في عام 1948، حين أباد المحتل نصف سكان مدينتنا، وهجّر الآخرين تحت تهديد السلاح قسراً، وذبح من احتموا داخل مسجد "دهمش" في مدينة اللد. ولكن أتعلمون شيئاً؟ إنني أتحدّث لأبي كثيراً، خاصة حين لا أنام أياماً وأياما. قلت له مراراً: عُد يا أبي لترى الرجل الذي بكى على مدينتك وأرضك، التي اغتصبوها، عُد لتراه يرى الموت في كل يوم وفي كل لحظة في مدينة اللجوء. وكم وكم وكم من مرة نزحنا نحمل نكبتنا وهلعنا. الشهداء رحلوا إلى السماء وبقيت أنا أموت آلاف المرات في اليوم.

(لحظة صمت) 

■ ■ ■

الآن أنا بلا صوت، فالفظائع التي رأيتها جعلتني بلا صوت، والآن أوجّه أحرفي الى عدو مجرم يعشق رؤية الدماء والدمار والتعذيب والتنكيل والثكالى ويفجع الأبرياء، عدوّ يقتل ويسرق الضحايا ويدمّر ويذبح المدنيين من النساء والأطفال، أو دعني أخاطب ذلك السياسي أو صاحب القرار، وأنت تشاهد وتتابع الأخبار، مرتدياً معطفاً والشموع المضاءة من حولك وكلبك المدلل من حولك يتناول وجبته، هل لك أن تتخيل أن الطفل الذي فقد قدمه وعينه وأهله وبقي وحيداً يصارع الظلم من حوله، هل لك أن تتخيل أنه ابنك الذي يترجاك أن تتخذ القرار. لا تسلّمه للموت والذل ولا ترمه في عقر الحرب، فلا تكن مع الجاني جانياً مجرماً، فنحن أبناء الحرب نتوق للحب والسلام، نتوق للحياة، نتوق للصهيل فلقد سئمنا النعيق. 

وربي هذا ليس عدلاً، فالكون برمّته خاض الكثير من الحروب والصراعات، ولكن ما نعيشه في حرب غزة فاق كلّ قوانين الصعاليك والزناديق.

أعلم أنكم قرأتم المعلقات والشعر والروايات عن الحرب، ولكن دعوني أسرد عليكم من خلال ما يحدث معي يومياً، بكلمات بسيطة أصف لكم جزءاً يسيراً من هذه الكارثة الإنسانية.

ربما لا أريد أن أصف لكم الحرب، بقدر ما أريد أن أتعمق في جراح المدينة والناس. أنا أتكلّم، ويستحضرني جميع من كان يسير في هذه الأماكن الحزينة الثكلى العنقاء، وأقف معكم في عدّة محطات لم تعد للاستراحة فقمة وذروة الألم حين تمر بجانب سبيل للماء بناها تاجر تقي قبل مئات السنوات، وجاء العدو ليدمّرها بكبسة زر فتشعر بجفاف في حلقك، وتحلم بماء بارد بل تتمنى قطرة ماء فلعابك جف وشفتاك تشققتا.

■ ■ ■

منذ يومين مررت بحديقة جرفتها جرافات المحتل، وتذكرت بركة الماء. كان البط فيها يسبح، ألقيت لها يومًا بحواف سندويشة الزعتر والجبن النابلسي، ألقيتها لبطة جاءت وخلفها أولادها تطعمهم.

سالت دمعتي! فويح قلبي أنظر هنا وهناك علني أجد من ذلك الفتات ما يشبعني، فأنا جائع والحصار يلتف حول معدتي يعتصرها.

وأنا هناك رأيت الناس يهرعون نحو اللامكان والأطفال، يبكون وتلك السيدة التي لم تعد عجوزا أمسكت بسرير المستشفى، الذي كان عليه زوجها المريض المصاب المقعد، وجرّته للشارع فلقد قصفوا المستشفى فإذا بالشباب يساعدوننا،  إلى أين يا حاجّة؟ لتجيب: لا مكان! فهذه رابع مرة أنزح فيها، وليس لدي ولد أو بنت، وهنا سقطت القذائف على مدرسة للنازحين وصرخت إنها مدرسة ابني، وأنا أهرول وأصرخ خوفا على فلذة كبدي وروح الروحـ تذكرتُ أنه تخرج منذ ثلاث سنوات وأنني دفعت له مبلغا كبيرا من المال لسمسارٍ ليهرب للبلد المجاور.

نعم أصبحت مجنونا فالحرب نفسها مجنونة، صعلوكة، غبية، رعناء، وحمقاء وخرقاء وبلهاء.

سمعتهم يقولون اختبئوا، والخوري يقول من هنا دخلت إلى الكنيسة، التي لم تنج من بطش المحتل الظالم، فوجدت نفسي أضيء الشموع وأرتل وأصلي واقفاً خاشعاً فإذا بجارنا ينادي محمد: أين أولادك؟ فتذكرت أنني محمد، ولكنهم سحقوا مساجد مدينتنا وكسروا المآذن، لا فرق سأصلي هنا. أغادر مع أبناء بلدي بانتماءاتنا المختلفة لنبحث عن اللا مكان الآمن في هذا الزمن الغاب.

وجميعنا توجهنا لله الواحد الأحد، الذي خلق هذا الكون، نترجاه أن تنتهي الحرب ويموت الظلم.

وأكملت المسير وأنا أسمع الصراخ والضحكات. عالم متناقض وحرب مجنونة ومررت بخيمة المعلمة دعاء، وهي تعلّم أطفال الحرب الأحرف الهجائية وأحببت أنها لم تلغ حرف الضاد.


* كاتب مسرحي من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون