في كتابه عن "المتنبّي"، وهو سلسلة محاضرات ألقاها على طلبة الجامعة السورية بين عامي 1929 و1930، قال الباحث والشاعر السوري شفيق جبري إنَّ دراسة الأدب ليست إلّا أُلهية يتلهّى بها العقل. وصحّح كلامه قليلاً بعدئذ قائلاً: "إنها أُلهية شريفة تختلف عن غيرها من الألاهي؛ فهي تمنحنا لذّة الفكر وراحة البال".
والطريف أن يكون هذا الكلام عن الأدب مقدّمة لدراسة واحد من أكثر الشعراء العرب في تاريخهم ممن استدعوا الأدب، وهو هنا الشعر، للمشاركة في الحياة: إمّا الحياة الشخصية للشاعر، أو الحياة العامة. بل إنَّ الكاتب نفسه وضع عنواناً فرعياً لكتابه بعد العنوان الرئيسي هو "مالئ الدنيا وشاغل الناس".
ولكنَّ منطق المقدّمة الطويلة نسبياً، وهي المحاضرة الأُولى التي ألقاها على طلّابه، يقول إنه أراد لهم أن ينتزعوا من أذهانهم أيَّ فكرة قد تُشجّعهم على وضع الدراسة الأدبية في خدمة أهداف أُخرى غير اللذّة والإلهاء. ومن الواضح أنَّ المؤلّف أراد أن يفتتح سياقاً جديداً في الأدب العربي، وفي دراسته، لم تكن الحياة الثقافية العربية تعمل به، ولكن الاقتباسات التي يُكثر منها: ديكارت وأناتول فرانس ولانسون وغيرهم، تَشهد أنَّ رأي الكاتب في شؤون الأدب كانت مستمَدَّة من ثقافته الفرنسية أوّلاً، لا من الثقافة العربية التي لم تكن تستخدم مفردة "اللذّة" على الأقلّ في تقديرها لقيمة الأدب. وربما كانت ظلال بعيدة من موقف الفن للفن الذي أنشأه الفرنسيون أيضاً، وروّج له عدد من كتّابهم وفنّانيهم، تلوح وراء هذا الإصرار على أنّنا لا نأخذ من الأدب غير اللذّة والمسرّة والراحة، دون الاقتراب من أيّ مهام أُخرى، للكاتب أو للكتابة.
يستند الأولُ إلى الثقافة الفرنسية ويقتبس الثاني من الكتّاب الروس
ولكن الثقافة العربية سوف تُحقّق انتقالاً عنيفاً في الاتجاه الآخر حين تُرجم كتاب جدانوف "إنّ الأدب كان مسؤولاً" عام 1948، بعد صدور كتاب جبري بثمانية عشر عاماً، وقد ترجمه اللبناني رئيف خوري، الكاتب المعروف بسعة فكره وديمقراطيته. غير أنَّ المقدّمة التي كتبها هاشم الأمين تقول إنَّ الموقف من الأدب قد تغيّر تغيُّراً جذرياً، فهنا يُكثر كاتب المقدّمة استعارة الاقتباسات من الكتّاب الروس، ومن الكتّاب السوفييت، بدل الكتّاب الفرنسيّين، مُعلناً الموقف الجديد الذي يقول إنَّ الأدب لا يُكتَب لذاته، ولا للذّة والمتعة، بل للمشاركة في الحياة الاجتماعية، كما أنَّ درس الأدب لا يُنجَز كهواية، أو أُلهية، بل لمعرفة الوظيفة الاجتماعية التي ينهض بها. غير أنه يتجاوز هذه المهام إلى القول بمنطق الإلزام الذي سيسود في أجزاء من حياتنا الثقافية العربية لأكثر من عقد ونصف من السنوات بعد ذلك، مردّداً العبارات التي كان يُصرّح بها آنئذ كِتاب جدانوف. "فالأديب غيرُ حرّ في أن يرتفع ببرج عاجي عن واقع الشعب... غير حرّ في أن يخدّر الشعب... غير حر في نشر القنوط".
موقفان حائران تجاه الأدب إذاً: الأول يُريد إبعاده عن الحياة الاجتماعية، وأسره في نطاق اللذّة وحدها، والآخر يريد إلزامه على الخدمة في الشؤون العامّة، وإرغامه على تنفيذ التدابير المنصوص عليها في اللوائح.
والضحية هي الأدب.
* روائي من سورية