لماذا ينتحرُ الناس؟ ربّما لا يواجه الأحياء سؤالاً أصعبَ من هذا السؤال، عندما يتلقّون خبر انتحار أحدهم فيما يجلسون مكتئبين على أرائك وثيرة، أو يرزحون تحت الجوع والفقر. فالموتُ القدريّ لا يتركُ تساؤلات واعية، وهناكَ من يعتقد بأنّ الانتحار قدريٌّ أيضاً، فإذا ما بلغَ أحدهم أقصى طاقته على احتمال العيش، رمى نفسه إلى أقدار خارج هذه الدنيا.
لا يمكن الإجابة عن التساؤلات التي يتركها الموت، لأنّ الإجابة تقع في عالمٍ آخر. غير أنّ الجواب عن الانتحار موجودٌ في عالم الأحياء، حيثُ يفقدُ الناس مسوّغات استمرارهم يوماً بعد آخر، إمّا من الوفرة أو من الفاقة. ولعلّ حضور الانتحار في الأدب والفنون كان موازياً لحضور الحريّة أو الحُبّ. لأنّ اليائسين يمتلكون فتنةً خاصة، أولئك الذين يركلون الحياة دون أيّ تفكير يردعهم عن عالم الموت الشاسع الغامض، أولئك الذين يفتقدون فكرة الغدّ. فيما البشر ميّالون بطبعهم إلى التفكير في الأفضل، من أجل أن يستمروا، ويستمر نوعهم ويتحسّن شرطهم الاجتماعي.
يزخر عالم الأدب بالمنتحرين عشّاقاً وأعواناً وقادة، مدمنين ومذنبين، جناةً وأبرياء، فحدثُ الانتحار بذاتهِ، ينتجُ سرداً غزيراً يحاول تفسير الانتحار أو لملمة آثاره أو منعه. ولو أنّ المنتحر شخصٌ خرج في لحظة - تعنيهِ هو - عن مفاهيمنا وطرائق تفكيرنا التي صنعتها أزمنة أزليّة تنتصرُ لإشراقات الناس وتأسف لظلماتهم. ولو قُيّضَ للمنتحر أن يعتدّ بلحظة إشراقٍ واحدة، فسيعتبرها اللحظة التي طعن نفسهُ فيها أو شرب السمّ أو رمى بنفسهِ من البرج، فموتهُ بالنسبة إليه، لحظة إشراقهِ الباسلة.
يتهافت الناس في سورية على الموت لا على الطوابير فقط
في مسرحية شكسبير الشهيرة "يوليوس قيصر"، يقدم الشاعر الإنكليزي مثالاً بارعاً عبر كتابة مصير بروتس، الذي اشتهر من خلال مقولة قيصر: "حتى أنتَ يا بروتس"، وهو في المقولة مثالٌ على الوفاء الذي تحوّل إلى خيانة. شارك بروتس في مكيدة قتل قيصر كي يمنعَ طغيانهُ، رغم أنّه من أكثر المقرّبين إليه، لكنّ روما أحبّ إليهِ من قيصر. وعندما فشلت خطة بروتس لإصلاح الحكم في روما، خسرَ مبرر خذلانهِ لملكهِ، ودفعتهُ مثاليتهُ، وهو يرى شتات الحكم، إلى الانتحار.
كان بروتس قد أجبرَ نفسه، وفق ترتيبٍ حسن النيّة، على الإتيان بما يناقض طبيعته العميقة، وعندما أدرك أنّ فعلتهُ قد انقلبت عليه، والأهمّ أنّها انقلبت على روما، انتحر. فالانتحار هنا، مآلٌ متوقّع بالنسبة إلى شخصية مثاليّة مثل شخصية بروتس.
ولعلّ أكثر من يعاني من الحياة المعقدة الشائكة هم الأشخاص المثاليون، الذين تنضجُ الحلول لديهم عبر شكلٍ واحد، وهو المغادرة، وتدميرُ الذات عوضَ تدمير الآخرين. فالمعارك التي يخوضها من يُقدِم على الانتحار هي معاركُ يخوضها مع نفسهِ، لا خارجها. لتجيء الفنون عندئذٍ فتصدّر تلك المعارك إلى الآخرين، تشاركهم معنى أن يُنهي أحدهم حياتهُ، وهي فكرة برع فيها المخرج الإيراني عباس كيارستامي في فيلمه "طعم الكرز" (1997)؛ للفيلم حكاية بسيطة عن رجل يتجوّل في سيارته ويبحث عمّن يهيلُ فوقه التراب مقابل مبلغٍ مالي، إذ يخطط للانتحار ومن ثمّ الاستلقاء في حفرة. ويصوّر الفيلم كيف يتلقّى الآخرون وفقَ معتقدهم قرار الرجل في الانتحار وفق معتقده. وكيف تراوح ردودهم بين الجنديّ الذي يفرّ من السيارة ورجل الدين الذي يرفض المساعدة والرجل الحكيم الذي يروي تجربته مع الانتحار. ثمّ نجد أنّ بطل الفيلم هو الانتحار لا المنتحِر، الذي استلقى أخيراً في الحفرة من غير أن نعرف نهايته.
يفقدُ الناس في المكان الذي أعيش فيهِ فرصتهم لأن يعيشوا. ومن يراقب الحياة في سورية يلحظ تهافت الناس على الموت، لا على الطوابير فقط، التي شملت صنوف الحياة كافةً، يراهم مستلقين في الحفرة، وينتظرون من يهيلُ عليهم التراب.
* كاتب من سورية