نُشرت مؤخّراً في هذه الصفحة، التي تُعنى بشكل واضح بالترجمة ودورها في فتح نوافذ مضيئة على آداب الشعوب في الشرق والغرب، بعض الإسهامات التي تتناول دور المترجم في صُنع الأدب العالمي، باعتبار أنَّ ما يُترجمه، سواء بذائقته أو بأجندة دُور النشر، يساهم في تعريف القرّاء العرب بآداب ما كانوا يعرفونها من قبل وأصبحت تُوسّع من معرفتهم بالأدب العالمي.
ولكن هل المترجم حقّاً هو من يصنع الأدب العالمي؟
هنا إطلالةٌ على دور آخر مهمّ لـ "القائم على الاختيار"، أو الذي يقوم باختيار ما يراه ممثِّلاً أو جديراً بأن يُمثّل الأدب العالمي بالاستناد إلى ما يُترجمه أو ما يجده مترجماً من الأدب العالمي. وهذا "القائم على الاختيار" (سواء كان صانع أنطولوجيات محترفاً أو يُعِدُّها مُكلَّفاً من قبل ناشر أو مؤسَّسة) يرتبط دوره أيضاً بالتحوُّلات السياسية والثقافية في بلاده، وبتطوُّر النظرة إلى ثقافة الآخر من فوقية إلى دونية أو بالعكس، وبمسارات التعريف ممّا هو محلّي وإقليمي إلى ما هو عالمي. ولعلّ تجربة دول البلقان تفيد بشيء في هذا المجال؛ باعتبارها كانت تمثّل جسراً بين الشرق والغرب، بالمعنى الجغرافي والتاريخي والسياسي والثقافي، لأكثر من ألفَي عام.
في سنوات الحكم الشيوعي، الذي بدأ بنسخ التجربة الستالينية في الاتحاد السوفييتي آنذاك، كان التركيز على ترجمة آداب أوروبا الشرقية وغيرها ضمن "المسطرة الجدانوفية" للواقعية الاشتراكية، والتي أثمرت عن عالمية جديدة من لون واحد. ولكن بعد تمرّد يوغسلافيا التيتوية في صيف 1948 على ستالين والستالينية في السياسة والثقافة والتحوُّل لاحقاً نحو العالم الثالث في إطار "حركة عدم الانحياز"، عَرفت يوغسلافيا بعد 1948 حركةً نشيطة للترجمة ممّا كان يُعتبر "أدباً برجوازياً"، ثم من آداب العالم الثالث التي شكّلت اكتشافاً لإبداعات وثقافات مختلفة.
أسفرت سنوات الحكم الشيوعي عن عالمية جديدة من لون واحد
وفي هذا السياق أيضاً، عَرف الاهتمام والتعريف بالأدب العربي طفرةً كبيرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مع تطوُّر أقسام الاستشراق في بلغراد وسراييفو وبريشتينا، وصدور مختارات لشعراء عرب (صدرت أوّل مختارات من الشعر العربي الحديث في 1979)؛ حيث أصبح لـ "القائم على الاختيار" (الذي يمكن أن يكون المترجم أيضاً أو لا يكون) الآن الدور المهمّ في التعريف بأدب واسع الانتشار مِن الكويت إلى المغرب.
مع هذا التراكم المعرفي والثقافي، أي البدء بالتعريف بشاعر وترجمة ديوان له أو مختارات من أشعاره، أصبحت الحصيلة تسمح بمبادرة كبيرة بعنوان "الأدب العالمي" على شكل دراسات معمَّقة في عدّة مجلّدات. ولكن هذه المبادرة كما ارتبطت بيوغسلافيا وما راكمته من معرفة بـ"الأدب العالمي"، فقد انتهت أيضاً مع حروبها التي أنجبت سبع دول مستقلّة.
من باب المفارقة أنَّ لدينا حالةً مختلفة تماماً مع ألبانيا المجاورة، التي صدرت فيها في 2008 مختارات ضخمة بعنوان "أنطولوجيا الشعر العالمي للقرن العشرين" جاءت في 600 صفحة من القطع الكبير، وعَرّفت بـ 135 شاعراً من كلّ قارات العالم. ولكن قبل الحكم عليها، يُفيد أن نتعرّف على ظروف الدولة (ألبانيا) التي صدرت فيها، وعلى شخصية "القائم على الاختيار" الذي كان وراء هذا العمل الكبير.
كانت ألبانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي بقيت فيها تماثيل ستالين في الشوارع والساحات حتى 14 كانون الثاني/يناير 1990، حين أطاحت المظاهرات الأولى ضدّ الحكم الشمولي بتماثيل ستالين الكبير ثم تماثيل "ستالين الصغير"، أنور خوجا، الذي فاق معلّمه في الحكم الشمولي (1945 - 1985). في هذه الدولة، كانت الثقافة ابنة "الماركسية - اللينينية - الستالينية - الخوجوية" التي تُحدّد ما الذي على الجماهير أن تعرفه مِن الأدب المحلّي والإقليمي والعالمي، ولذلك كان مفهوم "الأدب العالمي" يقتصر على كتّاب "الواقعية الاشتراكية" عبر العالم، بينما كانت ممنوعةً أو مجهولةً كلُّ نتاجات "العالم البرجوازي المنحط". من هنا كان في ألبانيا تعطّش بعد سقوط الحكم الشمولي إلى إعادة التعرّف على العالَم في الأدب كما في الفكر والاقتصاد وغيرهما من المجالات. من هنا كان من شأن "أنطولوجيا الشعر العالمي" أن تغري كثيراً القارئ الألباني ليتعرّف من جديد على الأدب في العالم.
25 شاعراً أميركياً مِن أصل 135 ضمّتهم الأنطولوجيا
من ناحية أُخرى، كان "القائمُ على الاختيار"، بتيم موتشو Betim Muço يمثّل جانباً آخر لما حدث في هذه البلاد. فقد بدأت موهبة الشعر لديه في المدرسة الثانوية، حين أخذ ينشر أشعاره الأولى، بينما نُشرت أوّل مجموعة شعرية له "على دروب الوطن" عندما بلغ العشرين من عمره (1967)، ثم تابع نشر عدّة مجموعات شعرية وقصصية حسب "المسطرة الأيديولوجية" السائدة. في غضون ذلك، وضمن القبول الجامعي المخطّط لكل الطلاب، التحق بقسم الفيزياء وتابع دراسته العليا وأصبح مدير المعهد الألباني للسيميولوجيا بين 1993 و1997. وفي 2001 هاجر إلى الولايات المتّحدة واستقرّ في روكفيل بولاية ميريلاند، حيث حصل على الجنسية الأميركية في 2001 "تقديراً لإسهاماته في العلم والفن".
وعلى الرغم من تخصّصه العلمي في الفيزياء ومشاركته في الندوات العلمية الدولية، إلا أنه تابع بشغف إبداعه، خارج "المسطرة الأيديولوجية" بعد سقوط النظام الشمولي في 1990، ونشر العديد من المجموعات الشعرية والقصصية والروايات التي تُرجمت إلى الإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية والهولندية والرومانية والتركية. بقي على هذا الشغف حتى الليلة قبل الأخيرة من رحيله (يناير/كانون الثاني 2015) حين وضع اللمسات الأخيرة على روايته "النجوم قريبة جدّاً"، والتي نُشرت لاحقاً وفازت بجائزة "أفضل عمل أدبي" في "المعرض الدولي العشرين للكتاب" في تيرانا عام 2017.
بالنسبة إلى الشعر، الذي هو المدخل إلى عمله الكبير، نجد أن موتشو (1947 - 2015) جمع بين كتابة الشعر وبين ترجمته مِن الإنكليزية إلى الألبانية بعد استقراره في الولايات المتّحدة. ومع موتشو، لم تعد الولايات المتّحدة "مصدر الشرور" كما كانت طيلة السنوات بين 1945 و1990 في ألبانيا، بل أصبحت موطنا للشعر الذي يستحقّ الترجمة والتعريف بأدبٍ بقي مجهولاً طيلة عدّة عقود.
يبدو العمل أقرب إلى "أنطولوجيا الشعر الأميركي - الأوروبي"
ومع ذلك، نجد أن معايير الاختيار لـ "الشعر العالمي" أصبحت متأثّرة بهذه التحوُّلات الكبرى السياسية والثقافية بين الشرق والغرب. فلو كانت هذه المختارات قد صدرت قبل 1990، لكانت معظم الأسماء تختلف عمّا صدر في 2008. ففي هذه المختارات نجد سيطرة واضحة للولايات المتّحدة وأوروبا على "الشعر العالمي"؛ فمِن أصل 135 شاعراً، نجد من الولايات المتّحدة 25 شاعراً، بعضُهم ممّن حمل جنسية سابقة (روسية وصربية وغيرهما)، بينما احتلّت روسيا المرتبة الثانية ممثّلةً بـ13 شاعراً، ربما بسبب الحنين إلى الماضي، وجاءت فرنسا في المرتبة الثالثة ممثّلةً بـ11 شاعراً، ويتراجع العدد في بقية الدول الأوروبية، حتى يصل إلى شاعر واحد كما في السويد والنمسا وسويسرا وغيرها.
جاء ترتيب الشعراء حسب الترتيب الأبجدي لاسم العائلة، ومن هنا افتتح أدونيس المختارات بثماني قصائد مع تعريف موجَز به، بينما جاء محمود درويش في حرف الدال بخمس قصائد مع تعريف يقول إنه "عاد إلى إسرائيل (!) في 1990، حيث عاش في رام الله والضفّة الغربية". وباستثناء هذين الشاعرين الممثِّلين للشعر العربي، لدينا من "الشرق الأوسط" شاعران من تركيا (فاضل حسني وناظم حكمت) وشاعر واحد يمثّل "إسرائيل" هو يهوذا عميخاي الذي هاجر إلى فلسطين عام 1936.
هذا الخلل في التعريف بـ "الشعر العالمي" يبدو أوضح للشرق بالمعنى الأبعد (الصين والهند والباكستان واليابان وإندونيسيا) الذي يُمثِّل أكثر من ربع سكّان العالم، حيث لدينا شاعران من الصين (بي داو، ودودو)، واثنان من الهند (أ.ك. رامانويان، وطاغور)، واثنان من اليابان (شونتارو تانيكافا، وأكيكو يومانو)، وواحد من باكستان (فيض أحمد فيض)، وواحد من إندونيسيا (أنور تشائريل).
وهذا الخلل سيبدو أكبر مع القارّة الأفريقية التي تمثّلت بشاعر واحد مِن كلّ من نيجيريا (وول سونيكا) وأفريقيا الجنوبية (برتين برتينباتش) والسنغال (ليوبولد سنغور). كذلك فإنّ الخلل يبدو واضحاً مع أميركا الجنوبية التي مُثّلت بشاعرين من تشيلي (بابلو نيرودا، ونيكانور بارا) وواحد من كلّ من كوبا (هربرتو بادليا) والبيرو (سيزار فاليو) والأرجنتين (خورخي بورخيس) والبرازيل (كارلوس دوروموند) والمكسيك (أوكتافيو باث).
وبعبارة واحدة، إذا حذفنا حوالي خمسة وعشرين شاعراً من أصل 135 شاعراً، ستبدو "أنطولوجيا الشعر العالمي للقرن العشرين" في الواقع "أنطولوجيا الشعر الأميركي - الأوروبي للقرن العشرين"، مع الاختلال الواضح في تمثيل دول أوروبا كما رأينا.
في مثل هذه الحالة، عادةً ما تُعوِّض مقدّمة "القائم على الاختيار" بعض النقص أو تبرّره. ولكنّ "مقدّمة" بيتيم موتشو اقتصرت على توضيحات في صفحة ونصف فقط، منها أن دائرة العالم واسعة جدّاً، وأنّ الترجمة كانت من الإنكليزية والروسية وحاولت أن تضيف جديداً إلى ما هو مترجَم ومنشور بالألبانية، ومنها أنّ العمل كان أقرب إلى صورة جماعية؛ حيث تعجز العدسة عن التقاط كل الموجودين في الساحة!
ويلاحظ في نهاية المقدّمة توجيه شكر لبعض الشخصيات؛ ومن بينها إسماعيل كاداريه، مِن دون ذكر ما وراء الشكر، مع العلم أنّ كاداريه وكل الشعر الألباني غير ممثّل في هذه المختارات. ولكن الزميل الشاعر والأكاديمي أغيم فينتسا قال لي إنّ كاداريه كان قد وعده بتقديم للكتاب، ولكنه لم يف بوعده بعد طول انتظار، وربما كان كاداريه تحرّج من تقديم كتاب كهذا.
يعيدنا كلُّ هذا إلى نقطة البدء، أي إلى دور "القائم على الاختيار" في صنع الأدب العالمي. فمع كل التقدير للتجربة الإبداعية لبتيم موتشو في الشعر والقصة والرواية التي تُرجمت إلى عدّة لغات، إلّا أن دور "القائم على الاختيار" الذي ينحصر في ما يقرأه فقط بلغة أو لغتين (الإنكليزية والروسية هنا) لا يمثّل "الشعر العالمي"، بل يُعبّر عن الانحياز إلى "مركز" على حساب "الأطراف" (الصين والهند والعرب وغيرهم) التي لها تقاليد شعرية سابقة لما هو موجود في "المركز" المفترَض وتستحقّ أن يتمثّل إبداعها في القرن العشرين بشكل أفضل بكثير ممّا هو موجود هنا.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري