من جبلٍ إلى آخر ومن نجمةٍ إلى نجمة

15 ابريل 2021
(مينغ دي)
+ الخط -

مَرثيّةٌ صيفيّةٌ
(إلى أبي) 

بينَ حُزَيْرانَين مُتّصِلَيْن، وُلِدْتُ وتَيَتَّمتُ. 
كان الماءُ ذاكرتي الأولى: 
كنتُ معكَ وأُمّي في حوضِ الاستحمام الأشبه بنهر. 
ومن نهرٍ إلى نهرٍ...
لا تقطَعُهُما يابسةٌ، 
سَبِحْتُ ستّةَ آلاف ميلٍ لأرى العالمَ فقط،
ولترى هذه الرّحلة في عينيّ.

في الثالثة من عمري، 
سبحتُ معكَ أوّلَ مرةٍ في نهرِ اليانغتسي،
كانت أُمّي تراقبُنا تحتَ المِظلّةِ
على ضفّةِ نهرِ ووهان بوند.
هبّتْ عليَّ الرياحُ،
وبقميصِيَ القُطني الصّغير اصطدتُ سمكةً
ولكنّها قَفَزَتْ لتلحَقَ بالرّيح. 
ومن ريحٍ إلى ريحٍ... 
كأمواجِ البحر،
ومن موجةٍ إلى موجةٍ...

نشأتُ هنا، نشأتُ على هذا المدِّ المائيّ.
ومن مَدٍّ إلى مدٍّ...
طِرْنا من نهر اليانغتسي
إلى جزيرةِ السّلاحِفِ
كما لو كانَ المحيطُ الهادئ مُجرّدَ قناةٍ مائيّة.
من كان ليحزِرَ أنّك ستتوقّف هنا
في لوس أنجلوس، في منتصِفِ الطريقِ إلى القمر.

ورأيتُ 
من سماءٍ إلى سماءِ...
وجهَكَ ووجهَ أُمي
ووجوهَ النجومِ الصّيفية.
ومن نجمةٍ إلى نجمةٍ...
في المجرّة الحلزونية
رَحَلَتْ أُمّي أولاً، 
ألم تكن أُمّي أطولَ دربِ تبّانةٍ قَطَعْتَها في حياتِكَ؟
يا فتى قرية الخوانق الثلاثة
بجوار نهر اليانغتسى، 
هل وجدتَ يوماً في حياتِكَ طريقاً مختصراً؟
 
أتمنّى أن أكون ابنتكَ مجدّداً في الحياةِ القادمة يا راعي الوعول. 
دُلّني كيفَ أعثرُ على الكوكب
الذي ستلتقي فيه بأُمّي،
أريدُ أن أولدَ من جديد، وأن أكبَرَ إلى درجة ألّا أُصبِحَ يتيمة. 
أريدُ أن أُمسِكَ يَدَكَ، 
لكنّكَ تنزلقُ بعيداً مثل نُسيماتِ الهواء.
بحثتُ عنكَ من نسمةٍ إلى أخرى...
ومن جبلٍ إلى آخرَ...
ومن جدولٍ إلى آخرَ...
ومن حزني وُلِدَتْ حقبةً جديدةً من الأنهارِ الجليديّة.

2020.11


■ ■ ■


شِراع

لم أعرفْ يوماً أنّ نهرَ اليانغتسي يَصُبُّ 
في المحيط 
حتّى أبحرتُ في المحيط الهادئ. 
وصلتُ بسرعةٍ إلى كاليفورنيا 
على كفِّ تيّارٍ دافئ،
كان قاربُ التومول* يتحرّكُ مع الرّيحِ الموائمة،
وكم أصبحتُ بعيدةً الآن عن طريقِ العودة
إلى ووهان.
التوابيتُ المعلّقةُ القديمةُ ترتفعُ هناك
فوقَ المنحدراتِ بجانبِ نهرِ اليانغتسى
الذي يتدفّقُ كقوسِ قُزحٍ
لآلاف السنين المتّصلة من المدّ البحري. 
أنتظرُ اليوم أن يَهدَأَ الوباءُ التاجيُّ
حتى أتمكّنَ من أخذِ رمادِكَ إلى المنزل،
ولتمتدّ ذراعي إلى هناك 
كشِراع.

2021.2.4

* التومول: نوع من المراكب استعمله أوائل السكان الأصليين في لوس أنجلوس في ما يعرف اليوم بـ "الولايات المتحدة الأميركية". 


■ ■ ■


كيفَ تصبحُ مُستحاثّة

لا بدّ أن تموتَ بسرعةٍ وتَدفِنَ نفسَكَ
على عَجَلٍ أيضاً 
قبل أن تلتهمَكَ الأسماك.

اِقفِزْ بقوّةٍ
للوصول إلى عُمقِ ستّ أقدامٍ
لتُبقي جسَدَكَ كلّهُ قطعةً واحدة.
اِقفزْ إلى ضفتي نهرٍ محاطٍ بالجبال
ولتكنْ المنحدراتُ حادّةً
مثل الخوانق الثلاثة.

لن تَهُبُّ عليكَ الرياحُ، وسينقَطِعُ الهواءُ لفترةٍ طويلة.
ابقَ تحتَ الماء، ملفوفاً بالطين.
دون أيّ أوكسجين.
ثم عُدَّ القرون: 
واحدٌ واثنان وثلاثةُ قرون.
تتخلّى عن جلدِكَ ولحمِكَ،
يجفُّ دَمُكَ وتتشوّهُ
وتذوي أعضاؤكَ الداخلية.

تَعُدُّ مجدداً:
واحدٌ اثنان ثلاثة آلاف سنة.
ثم تتخلّى عن روحِكَ،
وتمتصُّ كلَّ أفكارِكَ وجيناتِكَ
وتُخزّنها في عظامِكَ.

أنتَ عظامُكَ. لن تموتَ أبداً طالما كنت تمتلك عظامَك.
عظامُك لكَ وَحدَك.
وكل ما عداها لله.
تَشبّثْ بعظامَكَ بقوّة،
وعُدَّ مجدداً:
واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ملايين من السنين.

لا بدّ أن تكونَ بعمرِ نهرِ اليانغتسي، 
وعظامُك غنيةٌ بالمعادن
وقد تستمرّ بالنموّ ليتَضَخّمَ حجمُك.
عُثر على الديناصورات في يونان.
وعلى التنين في قويتشو.
وعلى التماسيح في هوبي.
وعليكَ هناك، في الجنوب العربي،
بالقربِ من هوبي.

وُجِدَتْ مئاتٌ من أحافير الديناصورات بطول ثمانية عشر ميلاً
وكانت الأرض مليئةً بالملح
والمستحاثّات،
لا بدّ أنه كان هناك محيطٌ يوماً ما في هذه المنطقة.

انتظرتْ الديناصورات والتنانين انحسارَ المياه، 
وارتفاعَ مستوى الأرض إلى الجبال،
وقَطَعَ نهر اليانغتسي هذه الجبال،
لظهورِ الخوانق الثلاثة.
وأنتَ أيضاً،
انتظرْ اختفاءَ الخوانق الثلاثة،
وارتفاع مستوى النهر،
وظهور سلسلة جبال جديدة. 
لتفتحَ ذراعيكَ لمتسلّقي الجبالِ للعثورِ عليك،
ليجدوا هاتِفَكَ المحمولَ بجانِبِكَ، 
ومستحاثّةً صغيرةً بلغةٍ غريبةٍ لا يمكنهم فَكُّ شفرَتَها.
ليظنّوا عندها أنّك غازٍ آتٍ من الفضاءِ الخارجي
حُمتَ فوقَ الأرض 
وسَقَطْتَ مَيّتاً.

2020.11


* Ming Di شاعرة صينية مولودة في إقليم ووهان. درست الأدب الإنكليزي في الصين واللسانيات في الولايات المتحدة، ودرّست الصينية في "جامعة بوسطن" قبل أن تنتقل إلى كاليفورنيا حيث تعيش اليوم. لها سبع مجموعات شعرية بالصينية ومجموعة شعرية بالإنكليزية. ترجمت العديد من الشعراء بين هاتين اللغتين، وحرّرت أنطولوجيات شعرية عدّة، من بينها "شعرٌ جديد من الصين، 1917 ـ 2017" الصادرة عام 2019 لدى منشورات "بلاك سوير".

** ترجمة: عماد الأحمد

المساهمون