من أجل أن تبقى فلسطين

27 نوفمبر 2023
من الوقفة التضامنية مع فلسطين في "جامعة مدريد المستقلّة"، 23 الشهر الجاري (العربي الجديد)
+ الخط -

قبل ساعات من الإعلان عمّا سمّوه "هدنة إنسانية" في غزّة المدمَّرة والمحاصَرة والمشتّتة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، نظّمت، صباح الخميس الماضي، مجموعةٌ من الطلّاب والأساتذة في "جامعة مدريد المستقلّة"، بالعاصمة الإسبانية، وقفة تضامنيّة مع الشعب الفلسطيني، قرأوا خلالها أسماء الآلاف من الشهداء الذين سقطوا خلال الحملة العسكرية الوحشية التي يشنّها الجيش الإسرائيلي منذ شهرين على القطاع.

الرهبة والألم والأسى كانت واضحة على وجوه المئات من الذين تجمّعوا بالقرب من مبنى رئاسة الجامعة، وهم يتلُون تلك الأسماء بنطقها وأحرفها العربية الثقيلة على ألسنتهم، الخفيفة على قلوبهم. رُحنا نتناوب، أثناء قراءة تلك الأسماء الطاهرة، وكلّنا نشعر بأنّ هذا الطفل، أو تلك الأُمّ، أو ذلك المُسنّ، الذين حصدت أرواحَهم آلة القتل الإسرائيلية الهمجية، هُم دَينٌ في رقابنا جميعاً، لعجزنا عن منحهم أكثر من تضامننا.

لا شكّ، اليوم، وبعدَ كلّ ما حدث من مجازر، أنَّ عدداً كبيراً من المواطنين الغربيّين يتساءل: هل وكيف وماذا يمكن أن نفعل من أجل وقف هذه الجرائم التي تُقتَرف باسمنا ودفاعاً عن قيمنا الحضارية و"رقيّنا" الغربي، وكأنّ "إسرائيل" وكيلةُ الغرب في "الشرق الأوسط"، يُسمح لها بالبطش والعنف دون رادعٍ أو رقيب، وكلُّ ذلك لمجرَّد أنّ قادتنا ورؤساءنا يؤكّدون لنا، ليلاً ونهاراً، أنّها "جزءٌ لا يتجزّأ من الغرب"؟

الشهداء دَين في رقابنا لعجزنا عن منحهم أكثر من تضامننا

كلُّ هؤلاء الذين نطقوا تلك الأسماء العربية للضحايا الذي قضوا في غزّة، والتي كانت صعبة اللفظ بالنسبة إليهم، لم يَذكرهم أحدٌ في وسائل الإعلام. لقد كنّا نردّد أسماء الضحايا ونحاول أن نضع أنفسنا في مكان الوالد، أو الأخت، أو الابن، أو كلّ من فقدَ قريباً أو ابناً أو حبيباً أو صديقاً في الغارات الجويّة الصهيونية التي تأتي على أحياء بالكامل، فتُدمّرها، في محاولة لمحو معالم غزّة العمرانية والإنسانية.

لكن، وعلى الرغم من التضامُن، كانت العملية مستحيلة، إذ يصعب أن تحلّ مكان شخص مكروب بالألم والفاجعة، ذلك أنّ الوجع الشديد شيءٌ فريد من نوعه، ولن تجد مثله عند أيّ شخص آخر. كما أنّ ما ألمّ بأبناء غزّة من تقتيل وتدمير وتهجير وتعذيب يتعذّر أن يكون له مثيلٌ في التاريخ الحديث.

هكذا راح الحاضرون في وقفة التضامن يتلُون الأسماء العربية المليئة بأبجديّة رائعة، صعبة النطق عليهم، وهم يعُون أنّ القنابل لن تتمكّن أبداً من تدنيس الأرواح الطاهرة. رُحنا نُهجّئ أسماء الشهداء، وفي قلوبنا وعقولنا لم ننسَ مئات الآلاف من النازحين والمشرَّدين المتنقّلين كالأشباح من مكانٍ إلى آخر، بحثاً عن مكان آمن، لا يُمكن للقنابل الهمجيّة التي يطلقها البرابرة الجُدد على كلّ شبر من أرض غزّة أن تصل إليه.

رُحنا نردّد أسماءَ الشهداء ونتساءل: هل سنضطّر، بعد حين، للوقوف هنا، أو في أيّة ساحة مجاورة، لقراءة لائحة جديدة من أسماء المدنيّين الذين ستقتلهم قوّات الاحتلال الإسرائيلي في عملياتها البربرية والهمجية بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؟ 

ليس لما ألمّ بأبناء غزّة مثيلٌ في التاريخ الحديث

انخطفت قلوب جميع الحاضرين حين أقدمَ أحدُهم على قراءة أسماء عائلة كاملة مؤلّفة من ثلاثين فرداً، قضوا جميعهم جرّاء قذيفة إسرائيليّة سقطت على وحدة سكنيّة في منطقة ما من غزّة، لم يتمّ تحديدها. إنّها عائلة الزهّار، من الجدّ إلى الأحفاد، ذكوراً وإناثاً، وقد قضى عليها صاروخٌ صهيونيُّ لا غير، أي أحد تلك الصواريخ التي يتغنّى بها "الوطنيون الأحرار" في الدول الغربية المتقدّمة.

"لقِّنوا هؤلاء الإرهابيّين درساً لن ينسوه"، هذا ما يطالبُ به بعض المتشدّدين في الغرب. ولا فرق في القنابل أو في الصواريخ.

وكثيراً ما نسمع في وسائل إعلامنا الغربيّة عن "نُخب الدولة الإسرائيلية"، كما أنّنا نسمعُ من "نُخبنا" الغربية السياسية والفكرية المتآمرة معها، سواء في الصحافة أو في الكتب أو في التلفزيونات أو على وسائل التواصل الاجتماعي التي يحتكرونها، أنّ المجتمع الإسرائيلي "متفوّقٌ"، إذ إنّه يتحلّى بمزايا أخلاقية وثقافية ومعرفية - وقائمة الصفات المزيّفة تطول - لا تجدها في المجتمعات العربية أو الشرق أوسطية، وهي، بطبيعة الحال مجتمعات "متخلّفة"، و"إسرائيل" هي الديمقراطية الغربية الوحيدة الموجودة في تلك المنطقة.

وقد انضمّ، مؤخَّراً، إلى هذه القافلة الرئيس الأرجنتيني الجديد، خافيير ميلاي، المهووس بـ"إسرائيل" وبـ "الصهيونية" و"عظمتها"، لدرجة أنّه اعتبر في أكثر من مناسبة، وحتى من دون أيّة مناسبة، أنّ "إسرائيل" دولةٌ مثالية، تُمثّل أرقى قيم الإنسانية، وأسمى معاني الديمقراطية!

هذه "النخب" عموماً لا تقيم أيّ اعتبار لوجود الشعب الفلسطيني، وإذا ما فكّروا فيه، أو أقاموا له أيّ اعتبار، فإنهم يعتبرونه مجرَّد عقبة في وجه "النموّ والتطوّر والتحضّر" الذي تزعمه "إسرائيل".

كلّما سمعت كلمات الرئيس الأرجنتيني وهو ينطق بلغتي الأُمّ، الإسبانية، وكلّما سمعتُ أمثاله من القادة في أوروبا والولايات المتّحدة، وهُم ينطقون بلغاتهم الأُمّ، ازددت يقينا أنّ الثقافة الغربية في مأزقٍ أخلاقيٍّ لن يكون سهلاً الخروج منه. إنّنا الآن نعيش حالة انحطاط حضاري، وسيكون من الصعب علينا أن نستعيد مكانتنا الأخلاقية أمام بلدان العالَم.

إنَّ موقف الغرب المُخزي من الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في غزّة يشكّل منعطفاً تاريخياً لن نخرج منه بالسهولة نفسها التي دخلنا بها فيه، ولن تنفعنا بعد الآن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير التي يتباهى بها قادة الغرب.
لا شك أنّ كلّ حرف نطقناه من حروف أسماء هؤلاء الأبطال الأطفال والشيوخ والنساء في غزّة لهُو أكثر قيمةً وكرامةً من حياة هؤلاء الأوباش الذين يتولّون مقاليد أمورنا في ديارنا الغربية الراقية.

الفلسطينيون يعرفون كيف يشيّدون وطناً خالداً بأحرفهم البسيطة. ولكن، ماذا عنّ مجتمعاتنا الغربية؟ إنّنا كلّما ذكرنا أسماء هؤلاء العظماء الذين قضوا من أجل أن تبقى فلسطين، أزداد يقيناً أنّ كثيرين في الغرب ماضون إلى مزبلة التاريخ.


* أكاديمي ومترجم إسباني وأستاذ الدراسات العربية في "جامعة مدريد المستقلّة"

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون