رواية الكاتب المصري علاء فرغلي، "ممرّ بهلر"، روايةٌ عن الثورة، وتصديرُ الحديث عن الرواية، الصادرة عن "دار ديوان"، بهذه السِمة، قد يدفع القارئ إلى التساؤل عن أيّة ثورة يتحدّث صاحب "وادي الدوم" (وهي رواية فرغلي الحائزة على "جائزة نجيب محفوظ للرواية المصرية" عام 2021)، لأنّ المنطقة العربية تشهد تراجُعاً لمقولة الثورة، والناس ينفضّون عنها بعد نكوص حركات الربيع العربي. لكنّ الرواية، مع ذلك، تتحدّث عن الثورة. وهي بصورة أكثر دقّة، تتحدّث عن ثورة تدور في الإطار النظري، وتتقاطع مع بدايات ثورة يناير في مصر.
أمورٌ عديدة في الرواية تسوّغ القول بأنّها نصٌ يدور في الفضاء النظري للواقع. نصٌ يشتبك مع واقعه في حدود فساد النُخبة. فهي رواية عن فساد النُخبة، ومن ثمّ عن تَطهُّر هذه النُخبة بفعل الثورة. وهذه نظرة حالمة عن وجود نخبة قابلة للإصلاح بُكلّ طهرانيّة. صحيحٌ أنّ الشخصيات في الرواية فاسدة، إلّا أنّ فسادها هو فساد البيئة التي تدفع الجميع إلى صنف من صنوف الفساد. بالتالي، لا يظهر فساد النُخبة ذاتياً، بل هو فسادٌ يتأتّى من المجتمع والنظام. ولراوي الحكاية رؤية نقدية تقول بضرورة أن يكون التغيير شاملاً وجذريّاً، وأن يبدأ بالأفكار، حتّى يكون تغييراً مجدياً.
يعمل الراوي محرّراً أدبياً في دار نشر، ويتعاطى مع الواقع الذي ينادي على الثورة ويطلبها ويحتاج إليها، تعاطيه مع الكتابة الروائية التي تبحث عن أدوات. إنّه يرسم مساراً نظرياً للثورة، يخطّط لها، ويجعلها تبدأ من النخبة، لا من العامّة. صحيحٌ أنّ النخبة التي يختارها تظهر بمشاكلها وأزماتها جزءاً من العامّة. لكنها جزءٌ متعالٍ على العامّة، جزءٌ يعتقد بتفوّقهِ بسبب وعي الشخصيات بضرورة التغيير وحتميته. وقبل ذلك، بالمسؤوليات الاجتماعية التي يضطلع فيها جزءٌ كي يُغيّر المجموع. حتّى أنّ الرواية بمعظمها تحدث في مجتمع يمكن أن يُوصف بأنّه الطليعة. لكن عندما تُقاد هذه الطليعة إلى السجون، يظهر الأبطال الفعليّون بنزولهم إلى الشوارع، وهم عامّة الناس. وفي الصفحات الأخيرة يكشف نص فرغلي عن أبطاله الفاعلين. أي، أولئك الذين خرجوا في يناير.
يشتبك النصّ مع واقعه في حدود فساد النخبة
لا يذكر الراوي تواريخ أو أحداثاً محدّدة يمكن للقارئ أن يجدها في الواقع المصري بوضوح وجلاء، وإنّما عبر فساد النخبة الذي يصوّره الراوي فساداً شاملاً؛ بدءاً بالعلاقات الجنسية التي تجعل نساءً بلا موهبة يصبحن كاتبات بين ليلة وضحاها، إلى الكُتّاب الذين يكتبون عن رواياتهم بأسماء مستعارة، وليس انتهاءً بالكُتّاب الذين يستخدمون علاقاتهم مع السلطة كي يحقّقوا نجاحاً ما. وهذا جزء متّفَق عليهِ باعتباره فساداً. أيضاً يتخفّى وراءَهُ فسادٌ مقيمٌ في الأفكار، فالشخصيات النسائية تدور بصورة دائمة في فضاء أحدهم.
وليست الأجساد، أجساد الرجال والنساء، سِوى سلعة في فضاء مشبوه، الجميع فيهِ يحبّ أن يظهر وأن يتفوّق تفوّقاً أشبهَ بالعار. فالوصول مرهون بالتخلّي عن القيمة. لكنّ الراوي من موقعه المتعالي بدوره عن المجموعة التي يتحدّث عنها، وكأنّما لا يريد للثورة أن تظهر نتيجةً للوعي المتهالك المتفسّخ الذي لا يصدر عنه إلّا ما هو فاسد، ولا ينطق إلّا بما هو متهاوٍ ومتهافت. بل أراد لها أن تظهر حلّاً وتطهيراً، لا نتيجةً قادتها الأسباب، وقد يكون في هذا التفصيل بالضبط خيانة للواقع الذي ألهمَ النّص أساساً.
الراوي محرّر في دار النشر إذاً، وهو يصوّر نفسه خارج دوائر الفساد، إذ يرفض ما يتوجّب الرفض ويقبل ما يتوجّب القبول، ويعمل على الروايات في حدود جدارتها. إنّه يصنع كتالوغاً للثورة بالطريقة نفسها التي يكتب بها رواية. ويستخدم روايات نجيب محفوظ كي يشير للحشود بالتحرّك إلى الساحات عن طريق نشر عناوين كتبه مع أرقام صفحات وأسطر محدّدة على صفحة الثورة في فيسبوك.
لهذا الخيار الذي ينظر إلى الواقع عبر عين الأدب ما يسوّغه مع ما انتهت إليه ثورةُ يناير. فالكاتب المصري يروم البداية دائماً، يروم ثورة لا تُهزَم، ولا تنقطع الآمال منها. حدّاً جعل الآثمين في الفصول الأخيرة من الرواية يعترفون بالآثام التي اقترفوها، ويُشهِرون الفساد الذي يسم أعماقهم بالكتابة عمّا يخفونَه عن الآخرين عبر صفحاتهم الشخصية على فيسبوك. وننتبه في اعترافاتهم التي دفعهم إليها الأمن إلى التصاق الفساد بالنظام الذي يدعوه الراوي نظام التوريث.
فالأمن يعرف كلّ شيء بصورة يبدو معها أنّ كاميراته وأعين المخبرين تطال كلّ تفصيل في حياة النخبة، من غرف نومهم إلى مسيرتهم المهنيّة، كما يساومهم على ما يعرف ضدّهم في لحظاتٍ يختارها. ثمّ تجيء الثورة كي تحرّر الشخصيات من عارها، من عارٍ يكاد يكون لِكثرته عارَ وجودها، فهُم شخصيات متعفّنة، يقبعون في مستنقع آثم، ولا خلاص أو تطهير إلّا عبر الثورة وفيها.
راوٍ قادمٌ من المستقبل ليُخبرنا بضرورة الثورة
يمكن لقراءة متعجّلة للرواية أن تراها متأخّرة عن الحدث. فالثورة التي يشيرُ إليها فرغلي قد حدثت بالفعل، الناس احتشدوا في الشوارع، وغَيّر فيسبوك واقع شعوب كاملة. أكثر من ذلك، الثورة عينها شهدت تغيّرات جذرية جعلتها تأتي بالنظام الذي قامت ضدّه مع فروقات شكليّة.
لكنها لم تكن ثورة على الفكرة كما أرادها الراوي، ولربما يضيء نكوص الثورات ما بدا متأخّراً في رواية فرغلي. فالرواية بما توحي به، من غير أن ترتبط بوضوح بحدث محدّد، وكأنّما تَعقد صلاتها مع الواقع منفتحةً عليهِ، لا مُقَيِدَةً له أو مُقَيَدَةٍ به. والراوي الذي ترفّع عن الآخرين من غير أن يمتلك اسماً، هو راوٍ قادمٌ من المستقبل، ليخبرنا بضرورة الثورة، أو إن لم يكن قادماً من المستقبل، فهو قادم من زمانٍ ليس واضحاً فيهِ إلّا صوتُ الحشود يعلو ويعلو ضدّ السجّانين مطالباً بالحرية أبداً.
يُذكَر أنّ علاء فرغلي كاتبٌ وصحافي مصري من مواليد محافظة المنيا عام 1976. درس اللغتين العبرية والتشيكية في جامعتَي القاهرة وعين شمس، وعمل صحافياً في عددٍ من الصحف والمجلّات المصرية والعربية بين 2000 و2007. "ممرّ بهلر" هي ثالث رواياته بعد "خير الله الجبل" (2016)، الفائزة بـ"جائزة ساويرس للثقافة" في فرع الكتّاب الشباب، و"وادي الدوم" (2019)، الفائزة بـ"جائزة نجيب محفوظ" عن "المجلس الأعلى للثقافة".
* روائي من سورية