مفكرة المترجم: مع مدى شريقي

31 ديسمبر 2024
مدى شريقي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تؤكد الأكاديمية السورية على أهمية العمل المؤسسي الجماعي لتعزيز جودة وكمية الترجمة العربية، وتدعو لتوحيد الرؤى السياسية والمجتمعية في ظل الانقسام العربي والإسلامي.
- بدأت مسيرتها في الترجمة من خلال مشروع في الديموغرافيا بالتعاون مع "المركز العربي للأبحاث"، وتواصل العمل في هذا المجال لتطوير المعرفة الديموغرافية بالعربية.
- تواجه تحديات مثل العزلة وصعوبة الحصول على نسخ ترجماتها في سوريا، وتؤكد على أهمية التعاون بين المترجمين ودور المحرر في تحسين جودة الترجمة.

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "من شأن تبنّي أعمال مؤسسيّة جماعيّة أن يؤدّي إلى تعزيز الترجمة العربيّة كمّاً وكيفاً"، تقول الأكاديمية والمترجمة السورية لـ"العربي الجديد".



■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- لستُ ضليعة في تتبّع عوالمِ السياسة، القاتمةِ بنظري، وأكتفي بأنَّني أؤمن تمام الإيمان بأنّ فلسطين - كلّ فلسطين - هي أرض عربية مغتصَبة، وأنّ المقاومة بكلّ أشكالها وأحوالها وأزمانها حقّ وفخر، وستظلّ كذلك حتى كامل التحرير. أمّا الهاجس اليومي بعد هذا فهو ألم الإنسان هناك ومعاناته. أنا أُمٌّ، أبكي فقد كلّ أُمّ، وألم كلّ طفل، ووجع قلوب أهلنا المجروحين. ويخترق قلبي حزن مرير على انقسامنا، عربًا ومسلمين، وعلى عجزنا المُذلّ الذي حوّل تضامننا مع غزة إلى محض نسخ ولصق لأدعية على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما نشاهد المذبحة تتعمّق وتمتدّ على مرأى العالم كلّه ومسمعه. وهذا الانقسام ينسحب على كلّ مواقفنا السياسية، كلّ ما أحلم به اليوم هو أن نصل إلى مرحلة نطرح فيها رؤيتنا لواقعنا السياسي والمجتمعي، ولواقع صراعنا مع العدو الصهيوني من دون أن يكون كلّ واحد منّا متأهّبًا لرفع تُهم التخوين أو التسفيه، أو احتكار صكّ حبّ الوطن لنفسه دون الآخرين.


■ كيف بدأت حكايتكِ مع الترجمة؟ 

- دخلتُ عالمَ الترجمة بصورةٍ غير مباشرة في البداية، وفي إطار مشروع تخصُّصي وأقرب إلى البحثي. فباعتباري حاصلة على الدكتوراه في الديموغرافيا من فرنسا، جاءت ترجماتي الأُولى من باب نقل المعرفة الديموغرافية إلى اللغة العربية، وذلك في إطار تعاون مع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، حيث كانت الانطلاقة بترجمات تخصُّصية. ثم عُرضت عليّ عناوين من دُور نشر أُخرى لاحقًا، ورأيت فيها ما استهواني فتابعت في هذا المجال، من دون أن يتوقّف مشروع الترجمة التخصُّصي بالطبع، وإنما يجري المشروعان بالتوازي، ذلك أنني ومع تنوّع ما أُقدّمه من أعمال، أظلّ أتحيّن الفرصة متى سنحت لتقديم ترجمات متخصصة في مجال الديموغرافيا الذي ما زال برأيي في حاجة ماسّة إلى الكثير من التطوير والرفد المعرفي باللغة العربية.

أضع نفسي مكان القارئ فأطرح تساؤلاته المحتملة

■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتِها، وماذا تترجمين الآن؟

- آخر ترجماتي المنشورة هو كتاب "عن السلطة والأيديولوجيا" للمفكّر الأميركي نعوم تشومسكي ("صفحة سبعة للنشر"، 2024)، كما نُشرت لي في العدد 50 من "مجلّة عمران" للعلوم الاجتماعية والإنسانية، ترجمة مقالة للباحث الفرنسي هنري لوريدون بعنوان "نظريات الخصوبة: هل يتّصف الديموغرافيون بالحياد؟". أما الأعمال قيد الإنجاز فقد أنهيت مؤخّرًا ترجمة كتاب بعنوان "أساسيات التحليل الديموغرافي: المفاهيم والمقاييس والطرائق" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات")، أراه غاية في الأهمية لناحية شموليّته وتغطيته محاورَ في أُسس التحليل الديموغرافي ليست مطروقةً بهذا الشكل الدقيق في ما هو متاح من منشورات باللّغة العربيّة، وهو الآن قيد التحرير. كذلك أشارك مع دار "صفحة سبعة للنشر" في ترجمة جزأين من سلسلة "التاريخ الثقافي للانفعالات"، أنهيت أوّلهما بالفعل ويتناول التاريخ اليوناني والروماني، وأعكف الآن على ترجمة الجزء الثاني الذي يتناول العصور الوسطى.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟ 

- لستُ واثقةً تمامًا من إمكان التعميم في ما يخصّ "المترجم العربي"، وأقصد بذلك أنّ العقبات ستختلف بطبيعة الحال بين بلدٍ وآخر تبعًا للظرف القائم فيه، لا سيما في واقعنا الراهن اليوم، ومع ما مرّت وتمرّ به بلدان عربيّة كثيرة من أزمات تجعل حتى أدنى مقوّمات الحياة معضلةً يوميّة. في حالتي مثلًا، وأنا المقيمة في سورية، أجد نفسي في عزلة شبه تامّة إلى حدّ أنني عاجزة عن الحصول على نسخ من ترجماتي نفسها. لكن يظلّ عمومًا أنّ من شأن تبنّي أعمال مؤسسيّة جماعيّة أن يؤدّي إلى تعزيز الترجمة العربيّة كمًّا وكيفًا، إذ تأخذ الأعمال في معظمها شكل تعاقد فردي بين مؤسسة ومترجم فرد، وأعتقد أنّ وجود تعاون جماعي بين مترجمين من خلفيات فكرية و/أو أكاديمية مختلفة من شأنه أن يعطي فرصًا أفضل لتقديم إنتاج أكثر غزارةً وغنىً في آن. 


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- لستُ ممّن يتبنَّون هذا القول إطلاقًا. أبذل بالتأكيد قصارى جهدي لتسليم العمل في أتمّ صورة ممكنة وبعد تدقيقه - بنفسي - عدّة مرّات، لكنني وفي الوقت نفسه أُثمِّن غاليًّا دور المُحرّر الذي قد يلتقط أمورًا تفوتني في خضمّ ضخامة العمل والتركيز في جزئيّاته. لا أعرف شخصيًّا من يتولّى التحرير في المؤسسات التي أعمل معها، أنا أُراجع عملي وأُسلّمه وتتولّى دُور النشر إرساله إلى محرّريها. وفي حال عاد إليّ المحرّر بتساؤلات أو اقتراح تعديلات، أدرسها بعناية شديدة، ولا يعني هذا أنني أقبل بها جميعًا، لكنني أشرح دائمًا وجهة نظري وأُناقش المحرّر لنصل إلى الصيغة الأمثل. ففي النهاية نحن في صفّ واحد يسعى لإخراج العمل إلى القارئ بالصورة الملائمة والمضبوطة.

أُسس التحليل الديموغرافي ليست مطروقةً بدقة في لغتنا


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- تجربتي مع الناشرين طيّبة، يوجد تعاون جميل وتفاهم جيد مع الجهات التي عملت معها. لديّ سعة اطّلاع لا بأس بها بحكم تكويني الأساس في دراسة علم الاجتماع، ثم تخصصي الدقيق في دراسة الديموغرافيا، فضلًا عن خبرتي في التدريس الأكاديمي لموضوعات عدة وإتقاني الفرنسية والإنكليزية. كلّ هذا يجعل فضاء انتقاء الأعمال عندي واسعًا. اقترحت بنفسي بعض العناوين على دور النشر وترجمتها، لكن في الأعم الأغلب من الحالات يأتي المقترح من الدار إليّ، فأطّلع عليه بهدوء، وأُقرّر، وأُبلغ دار النشر بقراري. يسير الأمر كذلك منذ نحو عامين في تعاوني بشكل خاص مع دار "صفحة سبعة للنشر"، وهم يزوّدونني باستمرار وبمرونة تامّة بمقترحات جديدة أراها في المجمل مثيرة للاهتمام وأنتقي ما أميل إليه من بينها.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- لم أجد نفسي في موقف حاسم من هذا النوع حتى اللحظة، لكن بمجمل الأمر، أرى أنّ المترجم ناقلٌ لفكر الآخر، مؤتمَنٌ عليه نعم، لكنه بالتأكيد لن يتبنّاه بالضرورة وإلّا لخرج عمل المترجم عن صورته الصحيحة والمعقولة. يتعامل البعض مع المترجم وكأنه "كاتب" النص، وهذا بتقديري خطأ. أنا بصفتي إنسانة وأكاديمية لي تفكيري وآرائي وتصوّراتي السياسية وغيرها، لكنَّني حين أُترجم أنقل تفكير وآراء وتصوّرات المؤلّف ليس إلا. وكلّما تنوّعت الرؤى المترجَمة، ازدادت المعرفة غنىً. لكنني أضع لهذا القول استثناءً واحدًا، لربما يكون له بُعد نفسيّ لا أستطيع تجاوزه بالعقلنة، وهو أنه ليس بمقدوري أن أُترجم عملًا يتبنّى الفكر الصهيوني أو يروّج له أو يُحابيه، فالمسألة هنا تخرج بالنسبة إليّ عن كونها "اختلاف آراء"، لتمسّ قضية وجودية صميمة لا مجال فيها لأي مرونة.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟

- علاقتي مع الكاتب تقتصر على التعرّف إليه - ما لم أكن أعرفه مُسبقًا - قبل البدء بالعمل، والاطّلاع على أعماله وتوجهاته المختلفة. لكن ما إن أبدأ بالترجمة حتى تصير علاقتي هي علاقة خالصة مع النص، فلا أُفكّر في "الاسم" الذي أُترجم له، أو أُحاول غالبًا ألّا أفعل. ويكون جلّ انشغالي أن أنهض بالنص إلى أفضل تعبير بالعربية عن محتواه ومضمونه. 

كلّما تنوّعت الرؤى المترجَمة ازدادت المعرفة غنىً

■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- هذه علاقةٌ فيها بعض الندّية، في أحيان كثيرة يلحّ قلمُ الكاتب فيّ على عقل المترجم محاولًا التدخّل، لا سيما حين يتعلّق الأمر بترجمات في مجال تخصّصي البحثي الدقيق في الديموغرافيا، والذي لي فيه العديد من المنشورات. لكنّ الخبرة تساعد إلى حدّ كبير، لن أقول في تحييد دور الكاتب/ الباحث في أثناء الترجمة تمامًا، وإنما في توظيفه بإيجابية. وأقصد بذلك أنني لا أنسلخ عن أسلوبي في الكتابة - ولولا وجود أسلوب خاص بكل مترجم لخرجت الترجمات نسخًا متطابقة لا روح فيها - لكنني أسعى لأن أوظِّفه في صالح التعبير عمّا يريده الكاتب، بوعي تامّ أنني في هذا السياق ناقلٌ للآخر، ولست الكاتب.


■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- لم أنشغل بهذه المسألة كثيرًا في الواقع، ولعلّ السبب يرجع إلى أنني لم أدخل مجال الترجمة مُعرِّفةً بنفسي باعتباري مترجمة في الأساس، وإنما متخصّصة وأكاديمية وجدت في عوالم الترجمة مساحة لشكل آخر من التعبير والإسهام الفكري. لذلك لم أكن متابِعةً جيّدة لعالم الجوائز وما زلت لا أعرف عنها سوى القليل. لكن في العموم، يظلّ تكريم العمل الجيّد والمتقن والمهم، في أيّ مجال على الإطلاق، أمرًا إيجابيًّا ومحفّزًا، إن هو تمّ وفق ما يلزم من ضوابط وشروط موضوعيّة بعيدة عن أيّ اعتبارات أُخرى.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- ذكرت في إجابة سابقة أنني أرى من المفيد العمل على المزيد من تفعيل العمل المؤسسي في مجال الترجمة، من دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال الانتقاص من دور المشاريع الفردية التي قد تحمل حماسةً واندفاعًا وجُرأةً لربما لا نجدها في عمل المؤسسات. لكن وباعتباري أعمل في المجال الأكاديمي والبحثي، أرى أنّ دور المؤسسات في المشاريع المعرفية الكبرى مهمّ للغاية. فتطوير مشروع ترجمة يزوِّد مجالًا علميًّا - أكان من العلوم الاجتماعية أم التطبيقية - بترجماتٍ حديثة ورصينة علميًّا لا يمكن أن يتمّ بعمل فرديّ بل يحتاج بالضرورة لأن يتبنّاه مشروع مؤسسي قادر على تزويده بالتمويل اللازم وحشد جهود المتخصّصين في إطار عمل تكاملي.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها باعتبارك مترجمة، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- لا أستعجل، أهمّ ما أضعه نصب عينيّ هو عدم الاستعجال في افتراض الفهم وفي الكتابة. وحتى وإن بدا القول شديد الوضوح فإنني قبل وضع يدي على لوحة المفاتيح أعيد قراءة النصّ أمامي مرارًا، مع التحقّق الدقيق من المعنى. طوال هذه المرحلة أكون في ثوب الكاتب وعلى مستويين، مستوى الجزئيات في كلّ كلمة وجملة، ثمّ المستوى الكليّ للعمل بمجمله، محاولةً تلمّس عمق مقصده بأدقّ صورة. ثم بعد ذلك أعود إلى نفسي أنا المترجمة فأسمح لأسلوبي ولعلاقتي باللغة العربية ومفرداتها وصورها بالتقدم إلى الواجهة والتعبير بحرية. بعد الانتهاء من الترجمة، والتدقيق، وقبل الإرسال إلى التحرير، أُعيد قراءة العمل كاملًا بهدوء محاولةً قدر الإمكان أن أضع نفسي مكان القارئ الخارجي، فأطرح على نفسي تساؤلاته المحتملة، وأُعدّل وفقًا لها.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لم أُترجم كتابًا إلّا بعد اطلاع موسّع عليه، والحمد لله لست نادمة على عمل قدّمته أبدًا. 


■ ما الذي تتمنينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك باعتبارك مترجمة؟

- ما أتمنّاه للترجمة العربية يأتي في سياق أُمنية أكبر وأعم، أتمنى المزيد من الاستقرار والأمان وحريّات أكبر تفتح آفاقًا أوسع للاختيار والتعبير، والمزيد من الاهتمام بالتعليم والثقافة وتيسير وصول الكتاب إلى شرائح أوسع من السكان بأسعار مقبولة، أو على الأقل من خلال مكتبات عامة واسعة تتيح استعارة الكتاب وتداوله، ورفع أي قيود تحول دون حركة الكتاب الناطق بالعربية بين مخلف الدول العربية. أما على الصعيد الشخصي، فأُمنيتي أن أتمكّن من إيجاد جهات مهتمة باستكمال مشروعي في ترجمة مقالات ومؤلّفات متخصصة في مجال الديموغرافيا (تحليلًا ونظريات)، بالتزامن مع عملي البحثيّ في هذا المجال.



بطاقة 

أكاديمية ومترجمة سورية، من مواليد اللاذقية عام 1976، تعمل أستاذة في علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في "جامعة تشرين". عملت باحثةً مشاركة في مركز الدراسات السكّانية بـ"جامعة مونتسكيو" - بوردو الرابعة IEDUB، فرنسا (2009 - 2015). نالت الدكتوراه في علم السكّان (الديموغرافيا) من الجامعة نفسها (2008). من ترجماتها عن الفرنسية "الديموغرافيا: التحليل والنماذج" لـ لوي هنري (2019)، وعن الإنكليزية: "الثقة" لكاثرين هاولي (2021)، "المرأة السعودية والتطرف" لهند تركي السديري (2022)، "كلاب من قش: تأملات في البشر وحيوانات أخرى" لجون غراي (2023)، "التاريخ العجيب للقلب: رحلة في الثقافة والعلم" لفنسنت إم فيغيريدو (2023)، "عن السلطة والأيديولوجيا" لنعوم تشومسكي (2024). بالإضافة إلى ترجمات لعدد من المقالات عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية. 
 

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون