تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "في كثير من الأحيان أميل إلى ترجمة أعمال أدبية وفنية ملتزمة تسعى إلى قلب موازين الثقافة والفكر السائد في مجتمع يخوض في إشكاليات عقيمة"، يقول المترجم المغربي.
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- بدأت حكايتي مع الترجمة حينما بدأتُ أستمتع بروائع الأدب العالمي التي قرأتها وأثّرت بشكل كبير على حياتي الشخصية وألهمتني. بدأت حينها في التفكير بترجمة بعض هذه الروائع الأدبية كي أتقاسم هذا الإحساس الفريد الذي يكاد يكون نوعاً من النيرفانا مع قارئ مفترض تعذّر عليه بسبب عائق اللغة الاستمتاع بتجربة إبداعية تغوص في عمق الوجود البشري.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ترجمة نشرتها هي كتاب "المطر القديم"، وهو مجموعةُ قصائد للشاعر الأفروأميركي بوب كوفمان، وقد نشرتها "دار الرافدين". كانت تجربة فريدة من نوعها لأنّ كوفمان ليس شاعراً يسهل نقل شعره، بصوره الغريبة وتعابيره السريالية وإيقاعه، إلى اللغة العربية. كانت تجربة مهمّة بالنسبة إليّ، لأنها مكّنتني من الاطلاع على خطاب مختلف يسخر من اللغة نفسها ويتلاعب بها ويفكّكها، وهي سمة تَميَّز بها كوفمان الذي كان يحب صياغة مفرداته كما فعل في "عزلة مكتظّة بالوحدة".
يصعب إيجاد ناشر يهتمّ بنشر ترجمات أدب مخالف للمألوف
سبق أن أنجزتُ كذلك ترجمات للشاعر الأميركي مايكل روتنبرغ "حبس لأجل غير مُسمى" (دار أروقة)، وكانت تجربة مهمّة أيضاً لأنّ شعره يجمع بين الكلام المتداوَل وسخرية بعض كتّاب "جيل البِيت" (Beat Generation، وهي حركة ظهرت في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة قادها كتّاب ضد المؤسسة وقيم الرأسمالية ودعت إلى التجديد في الشعر ــ ملاحظة من المحرر)؛ من أمثال فيليب ويلن، وجوان كايغر. هذا بالإضافة إلى أنطولوجيا "أميركا أميركا: مختارات من شعر جيل البِيت" أنجزتُها منذ عامَين وتضمّ مختارات من قراءاتي لدواوين مختلفة لكتّاب "جيل البِيت"، وقد نشرتها "دار أروقة".
الآن، أنا أترجم روايتَي "تريستيسا" و"متسكّعي الدارما" لجاك كيرواك، بالإضافة إلى سيَر ذاتية لكيرواك وأنطونيو غرامشي؛ وهذا بناءً على اختياراتٍ شخصية لها علاقةٌ بالكتّاب الذين تأثّرتُ بتجاربهم الفريدة في الحياة، بالتزامهم وإيمانهم بالتغيير، هؤلاء الكتّاب الذين ألهموني بجمالية أعمالهم وتفكيرهم الذي يدعو إلى الاختلاف والانفتاح على الآخر واستكشاف جغرافيا أُخرى من أجل تحقيق الحرية لجميع مكوّنات المجتمع.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- تتعلّق العقبة الأولى بصعوبة إيجاد ناشر يهتمّ بنشر أدب مترجَم مخالِف لما هو مألوف ومتداوَل في الأسواق. معظم الناشرين يبحثون عن ترجمات لكتّاب أجانب مرموقين، كتّاب حقّقوا شهرةً على المستوى الدولي بمبيعات خيالية وحصلوا على جوائز معروفة أو جرى تحويل كتبهم إلى أفلام سينمائية حقّقت مشاهدات خيالية. يبدو لي أنَّ الناشر العربي اليوم يرضخ في غالب الأحيان إلى ما يمليه عليه اقتصاد السوق، لأنّه يأمل أن يُحقّق أرباحاً مِن خلال المبيعات. هكذا يصبح، للأسف، الرأسمال الفكري والثقافي سلعةً يُحدّد قيمتَها وثمنها طلبُ سوقٍ لا تلتزم بأخلاقيات الإبداع ولا تحترم المترجِم.
ثانياً، هناك عائق كبير له علاقة بالحفاظ على حقوق المترجِم؛ فبعض الناشرين لا يُؤدّون مستحقّات الترجمة ولا يلتزمون بتحديد عدد النسخ المطبوعة والمتوفّرة في الأسواق، ومعظمُ بنود عقودهم مجحفةٌ في حقّ المترجِم الذي يضطرّ في النهاية إلى قَبول ما يُمليه ضمير الناشر عليه، لأنّه يودّ فقط أن يرى كتابَه متوفّراً في الأسواق ويتقاسم لذّة القراءة مع قارئ مفترَض يتقاسم معه نفس آفاق الانتظار. هناك عائقٌ آخر له علاقة بعدم توفر جوائز تشجيعية كافية تمنح خصيصا للمترجم، أو بتقاسم مع المؤلف، يمكنها أن تكافئ أو تعوض المترجم على المجهود والوقت اللذين كرسهما لنقل عمل ما إلى اللغة العربية أو غيرها، كاعتراف وتنويه بسعيه كناشط ثقافي.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- نعم، أقوم شخصياً بعرض ومناقشة ترجماتي على كتّاب ومترجِمين وشعراء وأساتذة متخصّصين في المجال، كما أستشير المؤلِّف نفسَه حينما أجد لبساً في بعض العبارات أو المصطلحات، كما أنّني أتواصل شخصياً مع محرِّرين من دور نشر أجنبية ("نيو دريكشنو" و"سيتي لايتس" مثلاً) وأصدقاء لبعض الكتّاب الذين ما زالوا على قيد الحياة، كما هو الحال مثلاً حينما تواصلتُ مع محرِّر بوب كوفمان، الصديق ريموند فوي، والصديق مايكل روتنبرغ حينما تعلّق الأمر بترجمات فيلب ويلن. وفي بعض الأحيان أتواصل مع بعض أفراد عائلات الكتّاب الذين أشتغل عليهم أو أزورهم كما حدث عندما زرتُ أمينة بركا، زوجة الشاعر الكبير أميري بركا، في مدينة نيووارك بولاية نيوجرسي، مستفسراً عن بعض تفاصيل حياتهما وعلاقتهما بـ "جيل البِيت" و"حركة الفن الأسود".
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- علاقتي مع الناشر مبنية على الاحترام المتبادَل ويحكمها التواصل البنّاء خلال مراحل الترجمة وإعداد العمل للنشر. في بعض الأحيان، أقوم باقتراح عنوانَين لأعمال أحببتها وأثّرت فيَّ شخصياً. هذه الأعمال، سواء كانت فكرية أو خيالية، تتميّز بكونها تحمل فلسفة في الحياة وتجسّد نمط حياة يستحقّ أن يتبنّاه كلّ قارئ يفترض أنّه يتطلّع إلى معرفة الذات والآخر ويسعى إلى تحقيق تغيير إيجابي لظرف إنساني مُزرٍ. وفي فترات أُخرى، يقوم الناشر باقتراح أعمال للترجمة أقبلها إن كانت تتّفق مع ميولي وطموحاتي ومبادئي الشخصية التي تنظر إلى الأدب والفن بشكل عام كميثاق، كوسيلة للتغيير والرفع من وعي الناس.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك الأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- أعتقد أن كلّ عملّ أدبي أو فني ينشأ من فكرة أو مبدأ يكون سبباً في إخراجه إلى الوجود الذي يفكّر داخله ويسعى إلى فهمه، وبالتالي إلى تغييره من الأسوأ إلى الأحسن. وهكذا يستحيل ألّا تحضر اعتبارات سياسية في الكتابة والترجمة، على الأقل هكذا أنظر إلى الأمر من وجهة نظري. لا أريد أن أتحدّث عن حضور نوع من الأيديولوجيا المتأصّلة في كلّ محاولة للإبداع والترجمة، ولكن بالأحرى حضور انشغال بالظرف الإنساني الذي لا يمكن أن يغفله كلّ مترجم واعٍ بدوره كناقل لتجربة إنسانية مثالية. في كثير من الأحيان أميل إلى ترجمة أعمال أدبية وفنية ملتزمة تسعى إلى قلب موازين الثقافة والفكر السائد في مجتمع يخوض في إشكاليات عقيمة.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجِم له؟
- تكون في أغلب الأحيان علاقةَ صداقة حميمية متبادَلة وتقاسُم للعبء الوجودي، فكثيراً ما يسبق فعل الترجمة فعلَ تواصل يتجاوز الأمكنة والأزمنة نبوح فيه بالأسرار، كما أنه يتحوّل في أحيان أُخرى إلى نقاش حاد للإشكالات والإخفاقات التي نواجهها، يعقبه تصوُّر ما يمكن أن يكون بديلاً مِن خلال العملية الإبداعية والترجمة.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- كما سبق أن ذكرت، أنا أميل إلى ترجمة كتّاب أتقاسم معهم حساسيات جمالية وفلسفة عن الوجود ونمط حياة ينبني على مبادئ إنسانية تدعو إلى الإيمان بالاختلاف ونشر الوعي من خلال الأدب والفنون. فبالضرورة أتأثّر بأسلوب الذين أُترجمهم - مثلاً ديواني الأول والثاني باللغة الإنكليزية يُبين عن تأثّر ملحوظ بأسلوب "جيل البِيت" وتكتسيه مواضيع لها علاقة بفلسفتهم. عندما يكون الفرد مؤمناً بالعمل ويتقاسم نفس الانشغالات الوجودية مع الكاتب أو الجماعة، فبالضرورة يخلق انسجاماً وتناغماً في قرارة نفسه بين الكاتب والمترجم.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- هي قليلة جدّاً وغير كافية ولا أعلم عنها الكثير، ولكن أتمنّى أن تتوفّر للمترجِمين فرص للإقامات الفنية وتُتوَّج مجهوداتهم بقليل من الاعتراف يسمح لهم بأن يشتروا كتباً أُخرى ليترجموها.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- ليست لدي معلومات عن الترجمة المؤسّساتية فأنا لم أشتغل مع أي مؤسسة تهتم بالترجمة. أتمنّى أن تَحترم حقوق المترجم وتكافئه على مجهوداته.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- لا أحد يستطيع اليوم أن ينسلخ من الصورة النمطية التي تنظر إلى الترجمة باعتبارها خيانة، وهو وصف يرتبط في كثير من الأحيان بمساع أيديولوجية محدَّدة تكون بعيدةً كلّ البعد عن نبل وسموّ الأدب والفن والكتابة الإبداعية. إن الترجمة، بالنسبة إليّ، تهدف بالأساس إلى تحقيق الانسجام بين الحساسيات الجمالية للمترجم والكاتب والمتلقّي في الآن نفسه، ولذلك لا أميل إلى ترجمة أيّ نص نثري أو شعري حتى أحس بأنه يُبين عن سمة كونية وحساسية جمالية سامية يمكن الكشف عنها وتقاسمها مع جماعات من القرّاء يمكنهم أن يتفاعلوا معها ويتولّد لديهم إحساس مشترك بتمازج آفاق الانتظار.
تجمعني بمن أُترجم لهم حساسيات جمالية وعبء وجودي
وبهذا المعنى ففعل الترجمة لدي، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالشعر، يتطلّع دائماً إلى أن يُصبح إبداعاً ملتزماً خلّاقاً يحرّك رغبةً بشرية كامنة في تغيير الظرف الإنساني. وهكذا تُصبح الترجمة فعلاً وجودياً أوبالأحرى مسألة بقاء من المنظور التفكيكي إن أردنا أن نستعير كلمة survie من دريدا للدلالة على بقاء الفرد بعد كارثة وما يتحمّله من مسؤولية في التعبير والكلام من خلال أعماله التي تبقى إلى الأزل بعد رحيله من خلال الترجمة، مانحة المبدع حياة مضافة sur-vie يمتدّ فيها وجوده من خلال العمل الإبداعي الذي يتجاوز في الأخير مؤلفه.
كثيراً ما تُطرح أسئلة لها علاقة بمواضيع نظرية تحوم حول إمكانية أو تعذُّر ترجمة الشعر في علاقتها بجدلية التركيز على الشكل أو المضمون، غير أنّني لن أتطرّق إليها في هذا السياق، فما يشغلني في المقام الأول هو الالتزام العاطفي الذي يربط المترجِم بالنص المترجَم عندما يتعهّد المترجم بترجمة قصيدة معيّنة يتقاسم من خلالها قيماً ومبادئ وأحاسيس وتطلّعات إنسانية مشتركة. بالرغم من أنه لا يمكن أن نُنكر بأنّ ترجمة عمل أدبي ما أمر محبط في كثير من الأحيان، لأنّ المترجم لا يستطيع أبداً إعادة إنشاء النص الأصلي بكل عظمته، ويرجع ذلك إلى طبيعة اللغات الإنسانية التي لا تشترك في نفس "الرموز" اللغوية و"الأصوات" و"أنماط القصدية".
أنا أميل أكثر إلى تقاسم رؤية فالتر بنيامين الذي يرى أن الترجمة لا تتعلّق بـ"فقدان" شيء ما؛ على العكس من ذلك، هي وسيلة لـ"كسب" شيء ما من خلال إنشاء نصّ لن يكون نسخة باهتة للأصل، ولكن ستكون له القدرة على "تنسيق" النوايا المتضاربة أصلاً من خلال تحويل لغة الترجمة للإفراج عن لغة "أكبر". مهما حاول المترجم أن يتقن عمله، تبقى الترجمة، حسب بنيامين، شيئاً مؤقّتاً لأنه "في حياته الآخروية [...] يخضع الأصل للتغيير. حتى الكلمات ذات المعنى الثابت يمكن أن تخضع لعملية نضج"، وفي غضون ذلك "يطرأ أيضاً تغيير في اللغة الأم للمترجم". لذلك "فما بدا حديثاً ذات مرّة قد يبدو مخترَقاً في المستقبل".
■ كتاب أو نصٌّ ندمت على ترجمته ولماذا؟
- إلى حدود الآن، لم أندم على ترجمة أيّ نص وأتمنّى ألّا يحدث ذلك في المستقبل.
■ ما الذي تتمنّاه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنّى أن تتوفّر للمترجم الظروف المثالية التي تسمح له بممارسة فعل الترجمة في جو ديمقراطي يسود فيه احترام الكرامة الشخصية ويتم فيه صون حقوقه، كما أتمنّى أيضاً أن تخلق المؤسّسات المسؤولة عن العمل الثقافي والحركية الثقافية والفنية داخل الوطن وخارجه موارد وفرصاً تُشجّع الترجمة وتجعلها ضمن أولويات سياساتها وتخطيطاتها.
بطاقة
شاعر ومترجم وباحث مِن مواليد أكادير عام 1985، حاصل على دكتوراه من "جامعة محمد الخامس". مِن ترجماته: "أميركا أميركا: أنطولوجيا جيل البيت" (2018)، و"حبس إلى أجل غير مسمّى: قصّة كلب" (2019) لمايكل روتنبرغ، و"المطر القديم" لبوب كوفمان (2020). أصدر مجموعتَين بالإنكليزية: "الآن ستعلم السيّدة جونس: قصائد ثائر يائس" (2015)، و"جروح نتنة محنّطة بالقطران" (2020).