تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "ماذا تفعل الكلماتُ لشعبٍ يُباد منذ أكثر من أربعة أشهر؟" تقول الروائية والمترجمة العراقية في لقائها مع "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادة على غزّة؟
- هاجسي اليومي هو كيفَ يمكنُ أنْ تنحدر الأخلاقيّات الإنسانيّة - المُفترَض أنْ تَحمل خصيصة معولمة عابرة للعِرْق واللّغة والتباينات الثقافيّة والجغرافيّة - إلى هذا القعر المُظلم من التفلُّت والقسوة والإمعان في القتل، واللامبالاة العربيّة. أعرف من واقع معاناتنا العراقيّة السابقة ما يعنيه الجهاد اليومي من أجل إدامة الحياة في أشكالها البيولوجية الأُولى، بعيداً عن أيَّة نفحة ثقافيّة أو ترفيهيّة سَتُعدّ حينها ترفاً غير مُستحَبّ، وقبل هذا غير مستطاع. لكن لا ينبغي لهذا التسفّل الأخلاقي على مستوى الحكومات؛ أن يُنسينا بعض الحسّ بالشرَف والنزاهة لدى شعوبٍ ليست قليلة في هذا العالَم.
■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟
- زادَ الهمّ المكتوم في القلب، وتضاعفت شُحنات الألم لما يجري لشعبٍ أعزل يُقتَل على مرأى ومسمع العالَم. يحكي علماء البيولوجيا التطوّرية عن اكتشاف "جين إيثاري"، في مقابل "الجين الأنانيّ" الذي حكى عنه ريتشارد دوكينز، وقالوا إنّ هذا الجين الإيثاري هو المُعوَّل عليه لإنقاذ عالمنا المُتخم بالكراهيّة والتنافس المُتوحّش والنزعات الاستحواذيّة. ليتهم عملوا على إيقاف العُدوان الصهيوني على غزّة أوّلاً، قبل أن يبشّرونا بجينات إيثاريّة مُفترضة. أمّا الجانب الإبداعيّ؛ فلطالما كان مُحايثاً للحياة والحرب، وأجودُه ما سيأتي بعد أنْ تصمت الصواريخ والمدافع.
يتوجّب علينا أن نعمل أكثر بكثير ممّا عملناه حتى الآن
■ إلى أي درجة تشعرين بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- أظنّ أنّ آلة القتل الصهيونيّة لن ترتدع بمفاعيل أعمال إبداعية مهما ارتقت خواصّها الفنّية، وسيكون من قبيل الأحلام اليوتوبية أو الفانتازيا التعويلُ على مثل هذه الأعمال في وقتٍ تشتدّ فيه المعاناة الإنسانية. الإبداع ليس بديلاً مناسباً اليوم عن الخبز والماء والدواء والسقف الساتر للوجود الإنسانيّ. ليتوقّف نزيف الدماء والهوس الصهيوني بالقتل، وبعدها يمكن إنضاج أعمالٍ إبداعية تليق بغزّة على نار التفكّر الهادئة.
■ لو قُيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- سأختار أن أكون فلّاحة، مُزارعة تكتب، فأنا ابنة الطبيعة التي أجادت منذ صغرها الإصغاء لهسيس الطبيعة وأصواتها الخفيّة، في الماء والهواء والأطيار والأشجار والفراشات. الأرض تُعلّمنا الكرَم قبل أن تُطعمنا من طيّباتِها. لذا أقول دوماً إنّ الفلّاح هو أكرم الكائنات في الأرض. ليس ثمّة من هو أكرم من الطبيعة: تضع فيها حبّة أو بذرة فتعيدها إليك أضعافاً مضاعفة. لكن لكي أُخفّف الحِمل عن نفسي، أقول أيضاً إنّ الفعل الإبداعي نتاجُ روحٍ مجبولة على الكرَم أيضاً. أعتقد أنّ البخلاء بعيدون عن الإبداع الحقيقي.
■ ما التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- التغيير الذي أنشده هو تبديلٌ جوهري وهيكلي وبنيوي شامل في تعاملنا مع بعضنا ومع الطبيعة المنتهَكة. الأرض تكاد تنفلت من بين أيدينا لتتحوّل مكاناً غير صالح للعيش الآدمي، وكذا التغوّل السياسي، مقترناً بالغطرسة الماليّة لبعض الحكومات يكاد يجعلنا نرتدّ إلى نمط من الإقطاع القروسطيّ، مع فارق أنّ متغوّلي اليوم يفتقدون بعض أخلاقيّات الإقطاع في تلك الحقبة الغابرة. الغطرسة الصهيونية البشعة مثالٌ صارخ لا يعلوه مثال من قريب أو بعيد.
ينطوي كلٌّ إبداع أصيل على نزعة مقاوَمة الظُّلم
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟
- فيديريكو غارسيا لوركا. سأقول له: لم يزل ذِكرُكَ باقياً مُبدعاً في الشِّعر والموسيقى والرسم والمقاومة، كيف ولماذا أباح عسكرُ فرانكو تصويب فوهات بنادقهم إلى صدرك الفتيّ؟ أتساءل وأنا أعرف الإجابة. الإبداع الأصيل ينطوي على نزعة مقاومة الظّلم والخلَل السياسي والاجتماعيّ، ولا يرتضي إذلال البشر واغتيال أحلامهم، ويرفض قلب الحقائق والصمت على تدمير الحياة والإنسان.
■ كلمة تقولينها للناس في غزّة؟
- ماذا تفعل الكلماتُ لشعبٍ يُباد إبادة مقصودة في مقتلة جماعيَّة مُمتَدّة منذ أكثر من أربعة أشهر؟ يسيرٌ علينا أن ندبّج آيات المديح والبطولة الفائقة في حقّ أهل غزّة؛ لكنّ هذا لا يكفي رغم كونه واجباً مستحقّاً لهم. الواجب أنْ نَلهج ببطولة الغزّاويين، ونحن ننشر كلّ ما بوسعنا من بطولاتهم واصطبارهم، ونجمعُ كلّ ما نستطيعه من إعاناتٍ مُمكنة تتيحُ لهم فسحة حياة، بعد أنّ عَزّت مُمكناتُها، إلى حدّ أن صارت المياه النظيفة الصالحة للشرب مطلباً أقرب للحلم البعيد.
■ كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- إيّاك أن تنسى محنة غزّة، وأنّ هناك فيها من صارت الحياة لديه عيشاً يوميّاً مع الموت بشتّى أشكاله: جوعاً أو عطشاً أو سقفاً كونكريتياً يهوي على الرؤوس، أو افتقاداً لدواء السكّري أو الضغط، أو تلوّثاً بكتيرياً مُميتاً لجرح لم يُضمَّد بطريقة طبّية صحيحة. تَخيّل أهل بيتك وهم يعانون هذه المعاناة الرهيبة. ماذا كنت ستفعل؟ لا تسمح للمقتلة الغزاويّة بأن تصبح خبراً يومياً اعتيادياً في صحف الصباح أو نشرات الأخبار.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أنت يا دارين، ويا أطفال فلسطين، في أعمق أعماق القلب. أنتم أولادنا وأحبابنا ويتوجّب علينا أن نعمل الكثير من أجلكم، أكثرُ بكثيرٍ ممّا عملناه حتى الآن. أنتم أبطال حقيقيّون في عصرٍ غابت فيه البطولة الحقيقية، وطغت فيه الغطرسة وديست فيه شرعة حقوق الإنسان.
بطاقة
كاتبة وروائية ومترجمة وناشطة ثقافية عراقية، من مواليد عام 1939 في بلدة بهرز بمحافظة ديالى. عملت في التدريس ثمّ في الصحافة الثقافية العراقية. لها سبعة وستّون عملاً مطبوعاً، منها خمسة وثلاثون في القصّة والرواية والمسرح والدراسة والمذكّرات، من بينها: "سيّدات زحل" (2009)، و"عشّاق وفونوغراف وأزمنة" (2016)، و"عصيان الوصايا" (2019)، و"كرّاساتي الباريسيّة" (2023). ولها في الترجمة اثنان وثلاثون كتاباً، من بينها: "تطوّر الرواية الحديثة" (2016) لـ جيسي ماتز، و"الثقافة" (2018) لـ تيري إيغلتون، و"عن المستقبل" (2021) لـ مارتن ريس، و"الثقافة الثالثة" (2020) لمجموعة من الفلاسفة والعلماء.