مع غزّة: المولدي الأحمر

19 مايو 2024
المولدي الأحمر
+ الخط -
اظهر الملخص
- الباحث التونسي يناقش تأثير الإجرام الإسرائيلي ضد الأبرياء في غزة، صمت العرب المخيب للآمال، وأهمية المقاومة وتأثيرها على الفلسطينيين والعالم، مؤكدًا على دور النضال الفكري والإبداعي.
- يشير إلى تأثير الأحداث على حياته اليومية والإبداعية، مؤكدًا على استغلال الوعي الجديد في الجامعات الغربية وقدرة العمل الإبداعي على كشف الحقائق وتحريك الضمائر.
- ينتقد النخب السياسية العربية ويدعو إلى التغيير من خلال العمل والإرادة، مختتمًا برسالة أمل وتحدي إلى أهل غزة والإنسان العربي، مؤكدًا على أهمية الصمود والمقاومة.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "زعزعتُم القناعات القديمة التي تحتمي بها النُّخب المهزومة"، يقول الباحث التونسي في لقائه مع "العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- في هذا الموضوع يشغلني هاجسان: الأوّل هاجس الإجرام الإسرائيلي ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيّين في فلسطين بصفة عامّة، مقابل صمت العرب الذين فقدوا قُدرتهم ليس على محاربة "إسرائيل" لـ تحرير الأرض من الاحتلال فحسب، بل حتى قدرتهم على الرفض الأخلاقي لسلوك المُحتلّ، وهذا أمرٌ خطير للغاية لأنّه ذو علاقة بنوع النُّخبة السياسية التي وصلت إلى السُّلطة في البلدان المؤثّرة في هذه الأحداث، وبِطُرق تمثُّلها لمصالح بلدانها وللعالَم العربي بصفة أعمّ. الهاجس الثاني مسار المقاومة العمَلي ومآلاته، لأنّ نتيجة الحرب على غزّة ستكون فارقة بالنسبة للفلسطينيّين أوّلاً، ثم للمنطقة برمّتها، وكذلك للعالَم الغربي الداعم رسميّاً لـ"إسرائيل" بشكل مُطلق ولا إنساني.


■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- أصبحت حياتي اليوميّة مشدودة إلى الأحداث. في كلّ لحظة نسمع خبراً جديداً مُفرِحاً أو مُحزِناً عن المقاومة، عن مواقف الدُّول العربية، عن يقظة الإنسان الحرّ في الجامعات الغربية التي بدأت في قَلب مُعادلة الوعي بالحقائق في هذه المجتمعات. إنّ هؤلاء الطَّلبة لا يحتجّون فقط على ما يحدُث للفلسطينيّين أصحاب الأرض من إبادة، بل كذلك على الوعي المزيَّف بمضامين العدل والحرّية والديمقراطية المكرّسة من قبل الليبرالية الأداتية الرأسمالية، التي تستعمل مقولات الديمقراطية والحرّية من أجل مُمارسة الاستعمار والإمبريالية. وأودُّ أن أُنبّه إلى أنّ هذا الوعي قد يكون سياقياً فقط وسيذهب سدىً إذا لم يَجْرِ استغلالُه على أحسن وجه، لأنّ الرأسمالية الليبرالية ستستخدم العِلم الأداتي من أجل تجاوز هذه الأزمة، وقد تنجح في ذلك، ولو أنّها لن تمحو النتائج على أمد متوسّط. بطبيعة الحال هذا الانشداد إلى الأحداث لم يمنعني من مواصلة أنواع أُخرى من الانشغالات التي أعتبرها نضاليّة من منظور استراتيجي، وهي الكتابة النقدية في مجال عِلم العُمران، كما يسمّيه ابن خلدون، وتكوين الطلبة وتدريبهم في الاختصاص كي يكتسبوا سلاح المعرفة في هذه المعركة المصيرية الشاملة.

سلاح المعرفة خطيرٌ في هذه المعركة المصيرية الشاملة

■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- هو فعّال جدّاً، لأنّ العمل الإبداعي يكون في معظم الأحيان فنّياً ومُبهراً، وهو يكون مُبهراً ومؤثّراً عندما يكون نقدياً، أي عندما يكشف للناس زوايا نظَر كانت محجوبة عنهم بفعل الروتين ونشاط آليات تزييف الوعي. العمل الإبداعي الذي يلقى رواجاً كبيراً يكون عادة مبنيّاً على مبادئ أخلاقية عُليا، وعلى فلسفة تكشف دراما الإنسان بوصفه كائناً ضعيفاً. العمل الإبداعي يعترف بذلك ويكشف عنه ويدين من يتسبّب في أذيّة الإنسان ويدعو بالإيحاء الفنّي إلى حماية الإنسان في ضعفه. لذلك فإنّ مهمّة العمل الإبداعي في مواجهة حرب الإبادة، أنه يكشف، بطريقته الفنّية النافذة إلى الروح، عن الوجه القبيح الآخر لمن يدّعي الديمقراطية والحداثة في المشرق العربي، وهي همجيته وتخلّفه اللذان كان الغرب يُلصقهما بالشعوب التي استعمرها. فـ"إسرائيل" من منظور إنساني متوحّشة ومتخلّفة إلى أقصى حدّ.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- كلّ مسار في الحياة يصنع تمثّلات صاحبه عن ذاته، لأنه بقدر ما ينحت الفرد قدراته ومهاراته يصنع ذاته، فلا يتخيّل مصيره إلّا كحصيلة لتجربته، إلّا في الحالة التي تكون فيها التجربة فاشلة تماماً. لذلك من الصعب على الإنسان التفكير في ما كان يُمكن أن يفعله لو لم يكُن على ما هو عليه حاليّاً باستقلال عمّا يُحدثه فيه تأثير التجربة الفِعلية التي عاشها. لكنّني أعتقد أن نقل المهارات من مجال إلى مجال مُمكن إذا توفّرت العزيمة.

الإمبريالية حرّفت مقولات العدل والحرّية والديمقراطية

■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أنا لا أنتظر تغييراً، لأنّ هذا فيه استقالة وتسليم بالمصير لمَن يغيّر العالَم. التغييرات تحدث في معظمها بفعل عمل الإنسان، "وقل اعملوا"! لذلك يؤسفني جدّاً أن أرى كثيراً من النُّخب السياسية العربية قد استبطنت فكرة أنّها مهزومة وغير قادرة على تغيير العالَم، وهي لا تعترف بذلك، فهي تفكّر بمبدأ أنّ الأسلم - الأسلم لها بطبيعة الحال لأنها لا تستشير في ذلك شعوبها - هو الركوب في قطارات سائرة حتى لو كانت لا تتبيّن جيّداً وجهتها، صمَّمها ويقودُها آخرون تدين لهم بالقوّة. في رأيي، إذا كانت هناك من حصيلة استراتيجية سلبية جدّاً حقّقتها الدول الغربية على حسابنا نحن العرب منذ هزيمة 1967، فهي نزْعُ الطموح الجامح - إلّا من رقابة العقل الشجاع - من النُّخب السياسية العربية. أتألّم كثيراً عندما أرى مبعوثِين سياسيِّين غربيِّين يتكلّمون أمام القادة العرب بلُغة أنّ الفلسطينيّين إرهابيّون ويجب القضاء على قوّاتهم المقاومة وهُم يحرّكون رؤوسهم بسَكِينة موافقين على مفردات هذا الخطاب ومضامينه، بينما يقف في المقابل سياسيّون غربيّون معارضون لحكوماتهم الداعمة لـ"إسرائيل" ضدّ هذا الخطاب وهذا الدعم. إنهم لا يرون أبعد من مصلحة حُكمهم التي هي في الواقع هشّة ويُمكن أن يدمّرها نفس الحليف المزعوم وبنفس الخطاب. رحم الله الشابّي الذي كان يحضُّ الشعب على مقاومة المُستعمِر قائلاً: "ومن يتهيّب صعود الجبال/ يعش أبد الدهر بين الحفر". بطبيعة الحال الطموح، بما هو همّة وتمثّل جريء وحرّ للذات، لا يُنجز شيئاً من دون العقل الرصين والشُّجاع في ذات الوقت، وهو مفهوم غائب عن النُّخب السياسية العربية الحاكمة حالياً.


■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- لا يُمكن مقابلة شخصيّات من الماضي حتى بشكل متخيّل. إنما أستذكر في مجالي المتنبّي شاعراً وابن خلدون مؤسّساً لعِلم العُمران وابن رشد مفكّراً حرّاً. أما من السياسيّين المغاربيّين القُدامى فيعجبني طموح قادة قرطاج والمرابطين والموحّدين والفاطميّين. طموحُهم وثقتهم في أنفسهم كانا مُثيرَين للإعجاب، وإنجازاتهم كانت عظيمةً، فبفضلهم نحن مغاربيُّون رغم مشاكلنا السياسية الحالية.


■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- لقد رفعتم رؤوسنا فوق ذُلّ قادتنا. لقد دفعتم الكثير الكثير من دمكم ولحمكم وإنسانيتكم، وأملي ألّا يذهب ذلك سُدىً... بمساعدة عربية!


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- الطموح والحرّية والإنجاز مفتاح العودة إلى التاريخ.


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- يا دارين العزيزة، ألمك ألمنا وفضيحتنا في ذات الوقت، لكنّكم زعزعتم القناعات القديمة التي تحتمي بها النُّخب المهزومة... وإنّ غداً لناظره قريب.


بطاقة

أكاديمي وباحث تونسي في علم الاجتماع من مواليد 1956. يدرّس حالياً في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، كما شغل منصب رئيس تحرير مجلّة "عُمران" للعلوم الاجتماعية بين عامَي 2015 و2023. من مؤلّفاته: "من الشاة إلى الزيتونة: التحوّلات الاجتماعية في الأرياف المغاربية" (صدر بالفرنسية عام 1994 وتُرجِم إلى العربية العام الماضي)، و"الفاعل والشاهد: حوار مع محمد الصياح" (2011)، و"الثورة التونسية: القادح المحلي تحت مجهر العلوم الإنسانية" (إشراف وتحرير، 2014)، و"القبيلة في الثورة السورية: المفهوم وقيمته" (2017)، و"القيادة في المجتمع العربي الإسلامي قبل الاستعمار" (إشراف وتحرير، 2023)، ، و"الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا: الفرد والمجموعة والبناء الزعامي للظاهرة السياسية" (2009). من ترجماته عن الفرنسية: "بحث في الهِبة" (2011) لـ مارسيل موس.
 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون