معركة لم تتوقّف

08 يونيو 2022
وقفة احتجاجية تكريماً لشيرين أبو عاقلة بنقابة الصحافيين المصريين، 17 أيار/ مايو (Getty)
+ الخط -

ترد على لسان شخصيتين ثقافيتين سوريتين عبارتان متقاربتان مفادهما أنّ "إسرائيل" سرقت عمريهما. في كتابه "دفاعاً عن الجنون" يذكر ممدوح عدوان مرافعته أمام محكمة الشعب الدولية في طوكيو (1983)، يقول عدوان: "كم خسرت من حياتي... بسبب إسرائيل؟". وفي فيلم عمر أميرلاي عن سعد الله ونّوس "هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء"(1997)، يقول ونّوس: "إسرائيل سرقت عمري". وبصورة عامة شكّلت فلسطين بالنسبة إلى المثقفين السوريّين إحدى دعائم وجدانهم، حتّى إنّ الأديب عبد السلام العجيلي (1918 - 2006) قاتل بنفسهِ مع جيش الإنقاذ (1948). 

لكنّ قولاً مثل "سرقة العمر" يحيلُ من بين مجموعة إحالات إلى التالي: لو لم تُقحم "إسرائيل" في المنطقة العربية لكان أدبهما أدباً مختلفاً. وكلاهما تحدّث في سياق مشابه، وهو أذى وجود "إسرائيل" الاستعماري وعنف هذا الوجود على الطريقة التي كانا يفكّران بها. إذ لا يمكن أن تهدأ وتشعر بالسكينة مع وجود عدوٍ مثل "إسرائيل" على حدودك، حتّى لو كانت الحدود هادئة، فهو هدوء كاذب مؤقّت ومؤسّس على السياسة. فيما ثقافيّاً، المعركة لم تتوقف في يومٍ واحد. 

وفي الثقافة انشغلت شخصيات ثقافية فارقة في الحياة السورية في خوض هذا الصراع بصورهِ النظرية، إذ كانت رسالة الدكتوراه للروائي هاني الراهب عن "الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية"، وجثمت الهزيمة بما خلّفته من شخصيات مغتربة في جلّ رواياته، وكذلك عدوان انشغل في دحض الرواية الصهيونية في كتابه "تهويد المعرفة". هذه الأسماء مجرّد إشارات للدلالة، وليست دراسة إحصائية. بالنسبة إلى ذلك الجيل في حالة ثلاثة من أعلامه: سعد الله ونوس (1941) وممدوح عدوان (1941) وهاني الراهب (1939)، نرى أنّ "إسرائيل" شغلتهم في أدبهم وأحاديثهم. وتعبير سرقة العمر تعبير شخصيّ، فمسألة التحرّر والكفاح ضدّ الصيغ الحاكمة أو أنماط التفكير التي تُعيق مسألة التحرّر من وجهة نظرهم، هي مسائل شخصية. وليست مسائل مجرّدة لموضوعاتٍ نظرية، فعنف الاحتلال الاستيطاني يطال الإنسان، بكلّ ما يكوّنه، والثقافة أحد مكوّناتهِ. 

سرقة العُمر تعبير شخصي، لذا فالكفاح ليس مجرّد نظرية

يحقُّ لأحدنا أن يتساءل عن فلسطين اليوم ضمن الشخصية الثقافية السورية. لقد تراجعت قضايا كثيرة خلال السنوات الماضية. لكن لربما يصلح أن نذكر بالتحليل ما جعل سعد الله ونوس وممدوح عدوان وهاني الراهب، المسرحي والشاعر والروائي، شخصيات ثقافيّة لا تُنسَى، إنّه وضوح الموقف وشموليته وعمقه. فالراهب الذي فُصل من اتحاد الكتّاب العرب في سورية على خلفية اتهامه بالتطبيع، يلتقي مع عدوان في فكرة مفادها ضرورة معرفة ما تفعله "إسرائيل" في الثقافة، ومواجهة تزييفها للتاريخ ومحاولاتها السيطرة على سردياته في الثقافات العالميّة. 

عنف الاستعمار يطال الإنسان بكلّ مكوّناته وأوّلها ثقافته

وبسبب دأب الراهب على إظهار التزييف الإسرائيلي للحقائق أينما حلّ في أثناء إقامة هاني الراهب في لندن لكمَهُ أحد المثقّفين الصهاينة. وهذا عِنادٌ وسلوك يوميّ على ما يبدو. على هذا النحو، كان الصراع مع "إسرائيل" جزءاً من يومياتهم، وقد تعامل الثلاثة مع الهزائم التي خلّفتها "إسرائيل" (كمشروع استعماري يدعمه الغرب) تعاملاً ينطوي على فروقات ظاهريّة، إنّما كانوا يتّفقون حيال أمرٍ لا مراء فيهِ، وهو استحالة التطبيع الانهزامي. وإنّما التعامل مع "إسرائيل" على أنّه كيان قائم على مغالطات التاريخ، ما يحتّم بالضرورة أنّه كيان طارئ.

تخيّلْ أحدهم، لم يعرف فلسطين، لم يزرها، لم يُشرَّد ولم يُقتَل أهل منزله، كما لم يخضع لأيّ أسرٍ، ثمّ يقول ببساطة وألم: "إسرائيل سرقت عمري". من جملة الإحالات التي تأخذنا إليها هذه العبارة، أنّه عاش حياته مشغولاً بفكرة الحريّة واستعادة الأرض، وفي كيفية تحقيق ذلك. كما توجد مقاربة من زاوية أخرى، مجازية بالطبع، وهي أنّ الثلاثة توفّوا بالسرطان في أعمار متقاربة. أكانت إسرائيل هي السرطان الذي سلبهم أعمارهم؟ إنّه تأويل، لكنّه تأويل ممكن لمصير الإنسان الذي كابد الصراع نفسه طوال حياته. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون