عادةً ما يميل التاريخ إلى ذكر الإبداعات الفنّية الكاملة، والمكتملة، والمنتهية. لكنّه، أيضاً، ترك لنا أمثلةً على أعمال فنّية غير منتهية، ناقصة، قيد الرسم، توقَّف مبدعوها عن إكمالها صدفةً أو لغرض معيَّن، فبقيت هذه الأعمال الفنية موجودة وتمَّ التعامُل معها على أنها شظايا، قطعاً فنية غير مكتملة. غير أنَّ الحداثة انجذبت إلى هذه الظاهرة، واهتمّت بها، محتفظةً بمساحة هامّة لعدم اكتمال العمل الفنّي، معتبرةً إيّاه أكثر حيوية وأصالة وأكثر انفتاحاً على الاقتراحات والتأويلات.
من هذه الفكرة، فكرة العمل الفنّي غير المنتهي، تُنظّم "مؤسّسة كايشا"، بالتعاوُن مع "المتحف الوطني للنحت" في مدينة بلد الوليد الأندلسية، معرضاً يضمُّ 85 عملاً فنياً جُمع معظمها من متاحف عامّة وخاصّة في كل من إسبانيا وبريطانيا وفرنسا والبرتغال، لفنّانين من طراز رفيع على غرار: إل غريكو، وأنطونيو لوبيز، وسورولا، ورامبرانت، ومارسيل دوشامب، ويوزيف بويس، وديفيد هونكي.
عملياً، حتى القرن السادس عشر، وإن لم يكن لظرف استثنائيٍّ، اعُتبر عدم اكتمال العمل الفنّي نقصاً أو فشلاً في عمل الفنّان. ولكن مع عصر النهضة، وجد فنّانون كبار مثل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وتيتيان، في العمل الفنّي غير المنتهي، جماليةً خاصّة تجعله مهمّاً بحد ذاته. هكذا اشتهرت بعض التحف الإبداعية تحديداً لأنها لم تكتمل في إحدى مراحل إنجازها، كما هو الحال مع سيمفونية يوهان سيباستيان باخ "فن الهرب"، التي رحل قبل أن ينهيها، تاركاً بذلك لمن جاء بعده من الموسيقيّين عملاً موسيقياً مليئاً بالرسائل والألغاز المشفّرة.
جُمعت الأعمال من متاحف في إسبانيا وبريطانيا وفرنسا والبرتغال
كذلك هو الحال مع قبر يوليوس الثاني، العمل الذي لم يستطع مايكل أنجلو أن ينتهي منه أبداً، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله على مدى عقود من أجل إكمال هذا المشروع الذي كان قد أطلق عليه اسم "مأساة القبر"، لكنَّ الظروف منعته من ذلك، ليبقى هذا العمل مفتوحاً على اللانهاية، وليتحوَّل مايكل أنجلو، مع هذا العمل، إلى عرّاب المفهوم الحديث للعمل الفنّي اللامنتهي، الذي كان يرى فيه شكلاً يُخفي جوهر العمل، ونقصاً يؤدّي إلى الكمال.
تطوَّر مفهوم العمل الفنّي المقطوع، والمجزَّأ، وغير المنتهي، واتّخذَ أهمية حاسمة في الأدب والفنون، لا سيما في الفترة الرومانسية. ربما يعود ذلك إلى هالة القداسة التي تحيط بالعمل الفنّي المنتهي التي قد تشلّ المتلقي وتمنعه من إطلاق العنان لمخيّلته. في حين أن العمل الفني المقطوع يثير في المتلقّي شرراً خاصاً ويفتح أمامه باب المصادفات والمفاجآت والروابط غير المتوقَّعة، ناهيك عن العلاقات المفتوحة على اللانهاية؛ الأمر الذي يجعلنا نعتقد أنَّ سرّاً ما قد هرب منا، فتستيقظ شهيّتنا لتتبُّع الآثار ومعرفة المزيد.
تتصدّر المعرضَ اللوحةُ الأخيرة للفنان الإسباني خواكين سورولا (1863 - 1923)؛ وهي لوحة بورتريه لـ مابيل ريك، زوجة الكاتب الأستوري رامون بيريز دي آيالا، التي لم يكملها سورولا قطّ. بينما كان يرسمها ذات صباح في حديقته، أُصيب بنوبة قلبية منعته من إكمال اللوحة، وبقيت على حالها، فنّاً بلا نهاية. يمكن زيارة معرض الأعمال الفّنية غير المكتملة في مبنى "مؤسّسة كايشا" حتى الخامس من آب/ أغسطس الجاري، واعتباراً من الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر المقبل في "المتحف الوطني للنحت" بمدينة بلد الوليد.