الواقعُ هو أكثرُ الأسئلة المعقّدة التي تواجه الفنّ، وتتمثّل مهارةُ الفنّان في تجسيد علاقة الفنّ بالواقع بصورة إبداعيّة وجماليّة لا تقوم على التنظير للواقع من جانب، ولا على الامتثال المُصمَت من غير رؤية خاصّة بالفنّان من جانب آخر.
تعمل الفنون في حيّزٍ بين هذين الحدّين، بين التنظير والامتثال؛ تُحاذر السقوط في التنظير على الواقع أو أدلجتهِ والتعالي عليهِ، وتُحاذر الامتثال بشكل كامل لشروط الواقع، خصوصًا عند التعاطي مع واقع متفسّخٍ من جرّاء الحروب والقتل، حيث تسود ثقافة القمع والفساد وحرية الجريمة.
تُسأَل الفنون جميعها أسئلة الواقع وبصورة دائمة، فتجد نفسها إمّا تشرّع القيم السائدة في المجتمع بتصديرها في منتج فنيّ؛ كتاب أو فيلم أو مسلسل درامي، أو تأخذ المتلقّي إلى تصوّرات من خارج واقعهِ المستنزَف. تبدو المسألة محصورة بين هذين الخيارين، لكن ربما يكون هناك حلّ لهذه المسألة المنتخبة إلى اتجاهين متضادّين. والحل في التزام الفنّ الواسع على الإنسانية؛ إذ تحيلُ مسألة الالتزام إلى تفكيك الواقع وإعادة كلّ علّة فيهِ إلى منشئها، ومن ثَمّ إعادة تركيب تلك العناصر التي جرى تفكيكها إلى لوحة متّسقة تُظهر رؤية الفنان، وتعبرُ بالفن فخَّي التنظير أو الامتثال.
نحنُ أمام فنّ لا يحاول أن ينطق، وإن نطق فثغاءً وحشرجة
كثيرًا ما نسمع صنّاع الدراما، كونه الفنّ الأكثر شعبية في منطقتنا، يعترضون على اعتراض قسمٍ من الجمهور على مَشاهد العنف أو التحرّش أو إعلاء قيم الجريمة والهروب من القانون باستخدام جملة يعتقدون أنّها سحرية، وبأنّها تعفيهم من أية مسؤولية، لا سيما أنّها تجد من يناصرها من الجمهور، وهي: "هذا هو الواقع". لكن هل الفنّ هو الواقع؟
من البداهة القولُ بأنّ الفنّ انزياحٌ عن الواقع، وكلّما أجاد الفنّان صياغة هذا الانزياح الفنيّ فهو يقترب من الواقع ويعالج قضاياه من غير أن يكونه. فالفنّ في النهاية يستخدم الواقع، كي يضيفَ قيمةً إلى المتلقّي، وكي يثري ذاته. وإنّ قولاً من قبيل "هذا هو الواقع" يخفي قصوراً يجعل الفنون مجرّد مهن من غير مقولة. وفي عالمٍ من زمن آخر، اشتهرت "منحوتة النبي موسى" (1513 - 1515) بالضربة التي كالها لها مايكل أنجلو (1475 - 1564) بمطرقته، لأنّها لم تنطق. وكان أنجلو بعدما أنجز المنحوتة قال لنبيّه "انطق يا موسى"، غير أنّ الرخام بطبيعة الحال، لم ينطق. ولربما تكون ضربة المطرقة الغاضبة الأخيرة، هي سعي الفنّان المستحيل كي يجعل الفنّ ينطق.
في المنطقة العربية ووسط تآكل القضايا الجامعة، كأنّما ينشأ نوعٌ من الفنّ وباستخدام الواقع المتفسّخ، فإنّه يعتّم على واقعٍ آخر أشدّ إلحاحاً، وهو واقع ضرورة التغيير وحتميته. ونحن بالتالي، أمام فنّ لا يحاول أن ينطق، وإن نطق فهو ينطق ثغاءً وحشرجة؛ إذ يتجنّب صنّاع الدراما تفكيك الواقع، ويتعاطون معه بصورة أنّه واقع مُنزَل، وفي هذا تجنُّبٌ لمسائل مصيريّة مثل التحرُّر السياسي الذي لا مناص منه في أيّ تحرّر آخر. لكنّ الفنّ، في النهاية، لا يترك لصنّاعه أيّة مساحة للمناورة أمام مسائل الحريّة والعدالة. والمتلقّي يشاهد فنّاً أخرس، يُصوّر واقعاً مُكمَّماً وموضوعاً في قفص. يسود فيهِ، كما الواقع، قانون العنف والجريمة وهدر قيم النجاح، حيثُ يجد المتلقّي نفسه في قفصٍ ضيقٍ كلُّ شيءٍ فيه نهائي ومحكم. والمتلقّي، في النهاية، لا يفهم لماذا، وهو يعيشُ في سجن الواقع، ينظر إلى قفص الفنّ، ويتساءل أهذا نهائ
ي؟
إن كان الواقع يجيب المتلقي بـ"نعم"، فإنّ الفنون تجيء كي تقول لهُ؛ لا. هَيّا انطق، وقُل، لا، بدورك. لكن يبدو أنّ هذا متعذّرٌ في شرط هذه الصناعة التي تمنع السلطات عليها أن تحاول النطق، ذلك لأنّ جمهوراً عريضاً يستمع إليها.
* روائي من سورية