ما الذي يدفع شاعرًا فلسطينيًّا، وشابًّا، لم يُجاوِز الثلاثين من عمره بعد، وُلِد في مخيم الشاطئ للَّاجئين في غزَّة وما زال يعيش هناك، إلى أن يكتب قصائده بالإنكليزية؟ هل بات "قدَر" الفلسطيني أن يكون "منفيًّا" حتى في داخل لغته؟ سؤالٌ لا تنفكّ تلحّ عليك الإجابة عنه وأنت تقرأ "أشياء قد تجدها مخبَّأة في أُذني" (Things You May Find Hidden Ears)، ديوان مصعب أبو توهة الأوَّل، الصادر في ربيع هذا العام.
ولكن، هل تُخفِّف من "لسعة" السؤال، تلك، معرفةُ المرء أنَّ الكتاب قد صدر عن دار "سيتي لايتس" (أضواء المدينة)، "الأسطورية"، التي أسّسها في سان فرانسيسكو لورنس فرلينغيتي، الأناركيُّ العنيد، وأصدرت، منذ تأسيسها في العام 1953، أعمالًا باتت علاماتٍ بارزةً في مدوّنة الشعر الأميركي والعالمي على حدٍّ سواء: بدءًا من "عواء" ألن غنزبيرغ، و"صور من بروخل" لوليام كارلوس وليامز، وليس انتهاءً بـ"من نيكاراغوا مع الحب" لأرنستو كاردينال، و"قصائد رومانية" لپيير پاولو پازوليني، و"أنثولوجيا الكوميديا السوداء" لأندريه برُتون، على سبيل المثال لا الحصر؟
وهل تخفّ "مرارة" السؤال، بدرجة أكبر، حين نعرف أنَّ الكتاب نال في الآونة الأخيرة "جائزةَ الإبداع"، ضمن "جوائز فلسطين للكِتاب"، التي تُمنح في لندن، منذ العام 2012، لأفضل الكتب الجديدة التي تتناول بالإنكليزية شتَّى مناحي الحياة الفلسطينية أرضًا وشعبًا ولغة؟ ناهيك عن اختياره، من طرف موقع أكاديمية الشعراء الأميركيِّين، ضمن قائمة الكتب التي أوصى بقراءتها احتفاءً بشهر الشعر القومي (National Poetry Month)، رفقةَ كِتاب "تلُّ الخَلِّ"، الكتاب الشعري الأوَّل للروائي الأيرلندي المرموق كولم توبين، وديوان "أخضر" للشاعر الأفريقيِّ البارز نِي أوسندير، ومجموعة "ظُلَّة" لِليندا غريغرسن، المستشارة في الأكاديمية، وغيرهم.
لا جواب مُحدَّدًا على سؤال اللغة والمنفى هذا، سوى أنَّ "خيار" الكتابة بالإنكليزيَّة (حين نعرف أنَّ الشاعر يكتب بالعربية أيضًا، ولكنه لم ينشر ديوانًا بها بعد) ليسَ إلَّا نوعًا من "التحرُّر الآنيِّ"، إنْ جاز لي القول، ليس من لغته الأُمِّ فحسب، وإنَّما من عالم تلك اللغة، والعالم المحيط بها أيضًا. بل هو تحرُّرٌ حتَّى من "ذاكرة" اللغة في حدِّ ذاتها. إنَّها كتابةُ المَحْوِ المُثبِت: الكتابة التي تمحو كلَّ شيء كان قبلها، وتُثبِتُ كلَّ ما يأتي بعدها.
يذهب الشاعر إلى القصيدة متحرِّرًا من وطأة كلِّ شيء. إنَّها الكتابة التي تحرِّره حتى من "وطأة" جوارحه هو: أن يفرض على العقل مخاطبةَ الجوارح ليأمرها أن تكتب بلغة ليست هي اللغة التي تدور في فلكها هذه الجوارح في كلِّ يوم. حياة الجوارح، هُنَا، هي حياة الجوارح في القصيدة، وليس الحياة خارجها. فحين "تُنفَى" الجوارح خارج لغتها، تعيش اللغة، في حدِّ ذاتها، حياةً خارج الحياة وموتًا خارج الموت: حياة بين برزخَيْن، يتوقّف فيهما الزمن لبرهة (أو ما شاء له أن يتوقَّف)، فلا يُفضِي أحدهما إلى الآخر إلَّا بمقدار ما يدخل الآخر فيه: أن تدخل الحياة في الموت، وأن يدخل الموت في الحياة. ألا يعيش الفلسطيني، في الواقع، حياةً هي كالموت وموتًا هو كالحياة؟
أيُّ تحدٍّ يفرضه الشاعر على نفسه ليراها في لغة أخرى؟
فإذا كان المنفيّ هو الذي يُطرَد من موطنه الأصلي، فإنَّ الشاعر، هُنَا، يطرد نفسه من لغته هو. يطردها، لا لـ "يعذِّبها" (قِيل قديمًا إنَّ النَّفي أشدُّ من القتل) وإنَّما ليطلَّ عليها، مِن فضاء أرحب، طلَّةَ الغريب على الغريب. فالغريب حين يطلُّ على الغريب يراه على نحو يعجز الغريب نفسُه أن يرى نفسَه عليها. ولكنه، أيضًا، حين يطرد نفسه من لغته هو، فإنَّه لا يطرد إلَّا اللغة فحسب، جالبًا معه، إلى "منفاه اللغويّ" هذا، الوطنَ، وكلَّ ما يمت بصلةٍ إلى الوطن. هذه قصائد شاعر منفيٍّ في وطنه (هُجِّرت عائلته من يافا)، يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي. لذا، فهو ينظر إلى لغته من خارج سياقاتها التاريخية والجغرافية والسياسية والدينية وحتَّى موروثها اللغوي نفسه. إنَّهُ تأمُّل الذات من الخارج، والنظر إليها من جهات أربع ليست هي جهاتها الأربع التي تعوَّد أن ينظر منها إليها. فأيُّ تحدٍّ هذا الذي يفرضه الشاعر على نفسه كي يرى نفسه في لغة أُخرى؟
وإذا كان المنفيُّ يعيش، في الواقع، على الحافّة، فإنَّ الشاعر الذي يكتب بلغة ليست هي لغته الأمّ يعيش على حافَّة اللغة: هو كالبهلوان يمشي على ذلك الخيط الرفيع المشدود، بين السماء والأرض، ولكنْ دون أن تكون لديه عصا التوازن تلك، وعليه أن يعبر "الحافَّة"، بكلِّ ما أوتي من قوَّة الخيال وجموح الكلام، إلى "أرض القصيدة" في الضفّة الأخرى، دون أن يقع في الهاوية، هاوية الكلام العاديِّ المبتذل: على القصيدة أن تكون "شعريَّة" في اللغة الأخرى، وإلَّا تحوَّلت إلى بيان/منشور سياسي، وهذه مسألة تطعن الشِّعر في مقتل!
نعثر في مفتتح الديوان على عبارة يضعها الشاعر عتبةً نصيَّة أو مدخلًا للولوج إلى كتابه، والتي ربَّما تعبِّر عن مدى "الصعوبة" التي يواجهها في تشييد بيته "الجديد" في اللغة "الغريبة"، أو ربَّما، بالأحرى، بيته "الغريب" في لغته "الجديدة": "عَقْدُ القصائد من شظايا الزجاج، والكونكريت، وقضبان الفولاذ، عملٌ ليس سهلًا. أحيانًا تدمى يداي. ويحترق قفَّازايَ في كلِّ مرَّة". فأيُّ "مهمّة" شاقَّة هذه التي تنتظر الشاعر كي يبني قصيدته من الخراب؟ يستخدم الشاعر لفظة "knotting" (عَقْد/ ربط/ إحكام الوثاق) للحديث عن السيرورة الإبداعيَّة لديه. والعَقْد، في اللغة، هو الجَمْعُ والضَّمُّ والشَّدُّ. فكيف يجمع الشاعر قصائده هذه ويضمُّ أطراف بعضها إلى بعض، ويشدُّ وثاق حروفها، كي لا "تتهدَّم" القصيدة ــ التي هي "بيت" الشاعر، أوَّلًا وأخيرًا ــ تَهدُّمَ "بيته" الحقيقيِّ في الواقع: هُنَا، يُعمِّرُ الشاعر القصيدة ليس فقط من حطام ذلك البيت، وحطام الوطن الكلّيِّ، وإنَّما من حطام اللغة أيضًا.
وليس هذا فحسب: فكلمة "knot" ــ بوصفها فعلًا ــ تنطوي، في طيَّاتها، على معنى "الإحياء"؛ فكأنَّ الشاعر، هُنَا، يبعث الحياةَ في الحطام/الخراب، ويُحيي البيت، بعد موته، والوطنَ الذي كان: لا يطلُّ الشاعر، في قصائده هذه، على الوطن الذي سوف يكون، وإنَّما لا يفارقه "الحنينُ" إلى الوطن الذي كان. فالبيت ليس هو البيت في الهُنَا والآن، وإنَّما البيت الذي كان "يحيا" قَبْلُ، في اللحظة الفائتة، وهذا واضح في قصيدة "ما هو الوطن" (What Is Home)، على سبيل المثال، التي يقول فيها: "ما هو الوطن/ إنَّهُ ظِلُّ الأشجار في طريق عودتي من المدرسة قبل أن تُقلَع من جذورها/ إنَّهُ صورة زفاف جدِّي وجدَّتي، بالأبيض والأسود، قبل أن تنهار الجدران/ إنَّهُ السّجّادة التي يصلِّي عليها عمِّي، حيث نامت عشرات النِّمال في ليالي الشتاء، قبل أن تُنهَب وتُوضَع في متحف/ إنَّهُ فرن الطَّابون الذي اعتادت أُمِّي أن تخبز فيه الخبزَ وتُحمِّر الدجاج قبل أن تدكَّ بيتَنا قنبلةٌ فتجعله رمادًا/ إنَّهُ المقهى حيث شاهدت مباريات كرة القدم ولعبت ـــ / ولكنَّ طفلي يوقفني قائلاً: كيف لكلمةٍ من أربعة أحرف أن تسعَ كلَّ تلك الأشياء؟".
يذهب أبو توهة إلى القصيدة متحرِّرًا من وطأة كلِّ شيء
الوطن في القصيدة "يَسَعُ" كلَّ شيء؛ سواء أكان كلمةً من أربعة أحرف (Home)، كما هي الحال في القصيدة أعلاه، أو كلمةً من ثلاثة أحرف، كما هي الحال في العربية. فإذا كان الوطن، في حال الكلمة المفردة بالإنكليزية، لا يختلف في عدد حروف تكوينه عن عدد حروف اسم الشاعر في حاله المفردة بالعربيَّة (مصعب)؛ فإنَّ حاصل جمع حروف الكلمتَيْن - الوطنَيْن"، في اللغتَيْن معًا، هو سبعةٌ؛ وحاصل جمع حروف الاسم الأخير للشاعر (أبو توهة) هو سبعةٌ أيضًا! كأنَّ الشاعر، هُنَا، لا يقيم في الوطن - الكلمة إلَّا بمقدار ما تُقِيم القصيدةُ فيه! ولكنَّها إقامة دائمة في الذي كان، وليست إقامة في الذي سيكون. فكلُّ شيء في غزّة المحاصرة، المكتظَّة بالبشر، يمكن أن يُمحَى من وجوده الماديِّ "القَبْليِّ" في لحظة. أيّ لحظةٍ. فلا وجودَ "بَعْدِيًّا" للأشياء في فلسطين. إنَّهُ وجودٌ قَبْليٌّ دائمًا. كان الشَّيءُ هُنَا قَبْلُ. ولم يكُنِ الشيءُ هَهُنَا بَعْدُ. فلا شيء مؤهَّلٌ للبقاء "طويلًا"، على حاله، في مدينة الشاعر، سوى "الحطام".
ولا يمكن لشيء بُنِيَ من حطامٍ أن يكون على نسقٍ واحد أو هيئة واحدة أبدًا. فقد جمع الديوان، في البنية الشكلانيَّة لقصائده الإحدى والخمسين، بين طرائق أسلوبيَّة عدَّة: جميع القصائد مقطَّعة في هيئة أسطر، على شاكلة قصائد الشِّعر الحُرِّ (free verse)، باستثناء قصيدة "فلسطين من الألف إلى الياء" (Palestine A-Z)، التي يفتتح بها الكتاب، فقد جاءت قصيدة بالنَّثر (poem in prose)، وفق التقليد الغربي للنَّوع، في هيئة جُمَل وفقرات مكتملة الوجود، من أقصى الهامش الأيسر إلى أقصى الهامش الأيمن. كأنَّ الشاعر أراد لفلسطين أن تكون كاملةً ــ في القصيدة ــ في كتلةٍ واحدة، وليست مقطَّعة تقطُّع وجودها في الحياة: فالكتلة النثرية على الورق تشبه البيت الرَّاسخ الذي لا يتزعزع.
بيت الشاعر بيتٌ مُهدَّم في الحقيقة أو سيتهدَّم في أيِّ لحظة بصاروخ إسرائيلي. ولكنَّه يلجأ، في بعض القصائد، إلى المزاوجة بين السطر الشعري الطَّويل (على شاكلة والت ويتمن) والسطر الصَّغير الذي يعتمد على حركة "بندول المشاعر": حركة النَّفَس؛ نَفَس الشَّاعر وشدَّة تقطُّعه في لحظة الكتابة. ويلجأ، أيضًا، في بعضها الآخر، إلى "هدم" نقطة بدء الهامش الأيسر، موسِّعًا حدود المساحة البيضاء التي تسبق الهامش في العادة؛ كأنِّي به، حين يوسِّع حدود الهامش، خارجًا عن المألوف، فإنَّه، بذلك، يوسِّع حدود القصيدة، فيخرجها عن "حيِّز" المكان الضَّيِّق، لتعانق "فضاء" الصفحة البيضاء: فضاء الحريَّة الأوسع! ولا بُدَّ من الإشارة، أيضًا، إلى أنَّ الديوان يضمُّ بعض الصُّوَر الفوتوغرافية: صورٌ من الحياة المهدَّمة في غزّة؛ ناهيك عن اشتمال الكتاب، في نهايته، على حوار طويل أجراه مع الشاعر الكاتبُ الأميركي أميل ألكلاي. إنَّ هذا الجمع بين قصيدة النثر والقصيدة الحرَّة والصورة الفوتوغرافية والحوار في كتاب واحد هو ربَّما الذي دفع البعض إلى القول إنَّ الديوان عصيٌّ على التصنيف الأنواعي (categorization).
وبعيدًا عن السِّمات الأسلوبية والطرائق اللغوية، لا بُدَّ للموت، وسط كلِّ ذلك الحطام، أن يكون حاضرًا في قصائد الديوان حضورَه الطاغي في حياة الشعب الفلسطيني عمومًا. يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "نستحق موتًا أفضل" (We Deserve A Better Death): "نستحقُّ موتًا أفضل/ أجسادنا مشوَّهةٌ وملتوية/ مطرَّزةٌ بالرصاص والشظايا/ أسماؤنا ملفوظةٌ خطأً/ في الراديو وعلى شاشة التلفزيون/ صورُنا، المُجصَّصة على جدران بناياتِنا/ تبهتُ ثُمَّ تشحب/ الكلامُ المنقوش على شواهد قبورنا يتلاشى/ محجوبًا في ذَرْقِ الطيور وفضلات الزواحف/ لا أحدَ يروي الأشجار التي تُظلِلُ/ قبورَنا/ والشمسُ الحارقة قد غمرت/ أجسادَنا المتحلِّلة".
وثمّة دلالة عميقة في استخدام الشاعر، هُنَا، للفظة "better"، مفضِّلًا إيَّاها، على سبيل المثال، على لفظة "good"، المرتبطة بالنوع الآخر من الموت الذي يُعرف باسم "الموت الرَّحيم" (أو الموت النَّبيل: Good Death)، الذي يكفل للمرء مِيْتةً محترمة، لا ألم فيها ولا معاناة. وهل ثمّة من يعاني أكثر من الفلسطينيّ على أرضه، وبين أحبَّائه؟ فموتُه اليوميّ المتعدِّد، على يد المحتلِّ الإسرائيلي، هو موتٌ مجبولٌ، دائمًا، بالألم والعذاب والغربة.
أيُّ مهمّة شاقّة تنتظر الشاعر كي يبني قصيدته من الخراب؟
ولكنَّ "الموتَ الأفضلَ" الذي يحلم به الشاعر لا يحدثُ إلَّا في القصيدة. لا تتحقَّقُ شِعريَّة الموت، هذه، إلَّا في القصيدة. ولا تتحقَّق القصيدة الشِّعريَّةُ إلَّا بالانتظار. ولذا، ينتظر الناسُ في غزّة موتَهمُ الشِّعريَّ هذا. فهم لا يموتون ــ كما يقول في قصيدة "مدينتي بعد ما حدث قبل وقت مضى" (My City After What Happened Some Time Ago) ــ وإنَّما "يستيقظون من موتهم المؤقَّت". لا "موتَ أكبرَ" في غزة (وفلسطين عمومًا) بل هو "موتٌ أصغر": كأنَّ الموت الفلسطينيَّ إغفاءةٌ في حضن الزمن. إغفاءةٌ بانتظار أن يتحقّق "الموتُ الشعريُّ": الموتُ الأكبر الذي يأخذ به إلى "حياة أفضل".
هذه "الحياة الأفضل" التي ترتجي "موتًا أفضل" هي التي تجعل الفلسطينيِّين يشعرون "بالخوف من الموت قبل الحياة/ وهم لا يزالون/ في أرحام أُمَّهاتهم"، كما يقول الشاعر في قصيدة "موت قبل الولادة" (Death Before Birth). يستيقظ الفلسطينيُّ من هذا "الموت العابر"، لا ليطلَّ على الحياة، بكامل زينتها، ولكنْ ليرى بأنَّ البيوت لم تعد قائمة وأصبحت أثرًا بعد عين، متناثرة "أدراجَ البارود/ أدراجَ ريح الموت"، مثل ما يقول الشاعر في قصيدة "ذهبَ مع البارود" (Gone With The Gunpowder)، مستلهمًا العنوان من عنوان الفيلم الشهير "ذهبَ مع الرِّيح". ولكنَّهُ، هُنَا، لا يلعب على التناغم الصوتي بين لفظة "gone" التي في مفتتح العنوان وبين لفظة "gun" التي في عبارة "gunpowder" فحسب، وإنَّما على ما يشي به الربط بين هاتَيْن اللَّفظتَيْن من معانٍ ثاوية أيضًا: بين البندقية أو المدفع كأداة قتل في حدِّ ذاتها، وبين ذهاب الفلسطيني من الحياة قتلًا بهذه الأداة على يد الإسرائيلي الغاصب.
ولكن، لا بُدَّ لفسحة زمنيَّة يقيم فيها الشاعر، في القصيدة، بين "الموت الأفضل" و"الحياة الأفضل"، وهذه الفسحة هي التي تفصل بين ضمير الأنا I وفعل الكينونة am، حين يقول في قصيدة "فلسطين من الألف إلى الياء" إنَّ "فعل الكينونة هو فعل الرَّبط (linking verb) الذي يعقب الأنا في الزمن الحاضر، حين لا يعود الشاعر موجودًا، حين يكون قد تناثر". وفعل الربط هذا ضروري، في هذه الفسحة الزمنية، كي يدلَّ على الفاعل ويكتمل المعنى. فإذا كان الشاعر غير موجود في الحقيقة، ومتناثرًا، فإنّه حاضر ومكتملٌ في القصيدة.
وتظهر هذه الفسحة الزمنية، في قصائد أخرى، بوصفها البرزخ (أو المَا بَيْن) الذي يفصل بين الداخل والخارج، بين الأنا الجوَّانيَّة والأنا البرَّانيَّة، حين يقول في قصيدة "المُهَجَّر" (Displaced ــ المهداة إلى إدوارد سعيد، مستلهمًا العنوان من عنوان سيرة سعيد "خارج المكان"، Out of Place؛ فالفلسطيني المهجَّر أو النازح هو دائمًا خارج المكان الذي ينبغي أن يكون فيه): "لستُ في الدَّاخلِ ولا في الخارجِ/ أنا فِي المَا بَيْن/ لستُ بعضًا مِن أيِّ شيءٍ/ أنا ظلُّ شيءٍ ما/ في أحسنِ الأحوالِ/ أنا شيءٌ/ غيرُ موجودٍ/ في الحقيقةِ/ لا وزنَ لِي، ذرَّةٌ مِنَ الزَّمنِ أنا في غزّةَ/ ولكنَّني سأظلُّ/ حيثُ أنا".
فبين الداخل والخارج يعيش الفلسطينيَّ موته الأصغر بانتظار موته الأكبر، باقيًا في المكان الذي سوف يظلُّ فيه (في غزّة، وفلسطين عمومًا) حتَّى وإن بات مجرَّد شيء، أو مثقال ذرَّة من الزَّمن الدائر في محيط الحياة والموت. ولكنَّ انتظاره ليس انتظارَ القَنوط، بل انتظار المفعم بالأمل. يختم الشاعر ديوانه بقصيدة "وردة مشرئبَّة بكبرياء" (A Rose Shoulder Up)، يلخِّص فيها الطريقة التي يحيا بها الفلسطيني، ويبقى على قيد الحياة، وسط كلِّ ذلك الخراب، كأنَّهُ طائرُ فينيق يصعد من الرَّماد، شامخًا بكبرياء، محلِّقًا في سماء الواقع، وفي سماء القصيدة، على حدٍّ سواء:
"لا تندهش أبدًا
حينَ ترى وردةً مشرئبَّةً بكبرياء
بينَ أطلالِ البيت:
هذهِ طريقتنا في البقاء على قيدِ الحياة".
* شاعر ومترجم أردني فلسطيني