مصداقية الوثائق العثمانية في تأريخ البلاد العربية: حالة تونس نموذجاً

24 مايو 2022
المؤرّخ العراقي فاضل بيات
+ الخط -

لدينا في العُقود الأخيرة إشكاليّةٌ تتعلّق بتأريخ البِلاد العربية خلال الحُكم العثماني الذي استمرَّ حوالي أربعة قرون؛ وهي تجمع ما هو مَنهجيٌّ بما هو سِياسيٌّ. ونظراً لأنَّه لا مِصداقيّة لتأريخٍ من دون وثائق، يُلاحَظ أنَّ نتائج المؤرِّخين العرب كانت تعتمد أكثر على الوثائق والمراجع الأوروبّية التي تتعلَّق بمركز السَّلطنة (إسطنبول) ونِظام الحُكم أو الولايات العربية، في الوقت الذي كانت فيه الدّولة العُثمانية قد خلَّفت وراءَها عشرات ملايين الوَثائق عن الولايات العربية. 

ومع أنّ تونس بالذات ارتبطت بأوّل مَن تنبّه لأهمّية الوثائق العثمانية، وذهب إلى إسطنبول لأجلها واستفادَ منها (عبد الجليل التميمي) منذ ستينيَّات القرن الماضي، إلّا أنّ تعلُّمَ الجيل اللّاحق للعثمانية والتوجُّه إلى مراكز الوثائق في تركيا، لا يُقارَن بما هو موجود من اهتمام في مراكز الأبحاث والجامعات الأوروبّية والأميركيّة. 

وخلال تلك العقود تموَّجَ الاهتمام بالوثائق العثمانية، واستخدامها في التأريخ للولايات العربية، بالتقلُّبات السّياسية في المنطقة العربية التي كانت تقترب حيناً وتبتعد حيناً عن تركيا الحالية. وهو ما كان ينعكس ليس فقط على الوصول للوثائق العثمانية (التي يُفترض أن تكون لها الأولوية) وإنّما على صُورة الحُكم العثماني في تلك الولايات التي تُرسِّخ سردية أو مزاجية متقلّبة تبعاً للأوضاع السّياسية. 

وعلى عكس ما يُعتقد، كما يبدو في الكِتاب الذي نتناوله "البلاد العربية في الوثائق العثمانية"، لا تتّسم الوثائق العثمانية بتجميل الأوضاع في الولايات العثمانية بل تقدِّم صورةً بكلِّ تناقضاتها عن الأوضاع، ممَّا يَجعلُ هذه الوثائق تتّسمُ بمصداقيّة أكبر.

لم يعد هناك من مبرّر لتجاهُل الوثائق العثمانية عربياً

وفي هذا السياق جاء تأسيس "مركز الأبحاث للتّاريخ والفُنون والثقافة الإسلامية" في إسطنبول (المشهور أكثر باسم إرسيكا) عام 1982 من قِبل "منظّمة المؤتمر الإسلامي" (منظمة التعاون الإسلامي حاليّاً)، ليفتحَ مساحةً واسعةً من التواصُل والتفاعُل بين المؤرّخين في الدُّول التي انبثقت عن الدَّولة العثمانية، سواء من خلال الندوات والمؤتمرات أو من خلال المطبوعات التي تركّز على التاريخ المشترك. وعلى الرغم من الأزمة المالية للمركز في السنوات الأخيرة، التي نشأت من عدم دفع غالبيّة دُول المنظّمة لِما يترتّب عليها لأجل تمويل هذا المركز، إلّا أنّ إدارة المركز تبدو معنيّة باستمرار بعض المشاريع المهمّة ومنها مشروع "البلاد العربية في الوثائق العثمانية"؛ الذي ارتبط منذ صدوره في عام 2010 باسم المؤرّخ العراقي والمتخصِّص في الوثائق العثمانية الباحث فاضل بيات. ومع هذا المشروع الكبير الذي يُثمر مجلّداً في كُلِّ عام لم يعد هناك من مبرّر لتجاهُل الوثائق العثمانية، إلَّا إذا كان المؤرِّخون العرب ينتظرون أن تصلهم إلى بيوتهم. 

وفي ما يتعلَّق بالمُجلَّد الأخير العاشر، عن تونس، الذي صدر مؤخّراً في إسطنبول 2022، لدينا 120 وثيقة مُعظمها مأخوذة من "دفاتر المهمّة" في الأرشيف العثماني، أي التي تتضمّن أحكاماً سُلطانية واجبة التنفيذ، وتتعلّق بالشُّؤون العسكرية والأمنية والإدارية والعلاقات مع الرَّعية. وفي ما يتعلَّق بتونس، تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الكَيان التونسي ارتبط بحكم الأسرة الحَفصية منذ عام 1228، ولكن مع فتح العثمانيّين للجزائر (1516)، والتوسُّع نحو الشرق باتجاه تونس بادر حاكمُها الحفصي مولاي الحسن إلى التَّفاهُم مع إسبانيا التي احتلّت قواتها تونس (1535). ولكن ما قامت به القوات الإسبانية من مجازر وتدمير جعلت السُّكان يهبّون ضدّ مولاي الحَسن ويُنصّبون ابنَه أحمد الثالث عام 1542، الذي أصبح يحكم منطقةً صغيرةً حول تونس بعد أن أصبحت معظم المُدن والبلدات الأُخرى تتبع إمّا لولاية طرابلس الغرب التي فتحها العثمانيون عام 1551، أو لولاية الجزائر. 

غلاف كتاب الوثائق العثمانية - القسم الثقافي

عليه، بقيت تونس هدفاً لإسبانيا التي سَعت إلى التَّحالُف مع الحَفصيّين، ولذلك قام السُّلطان العثماني عام 1572 بتعيِين علي باشا حاكماً على تونس، ولكن لم يستقرّ وضعُ هذه الولاية تحت الحُكم العثماني، إلّا بعد أن قام الوزير سِنان باشا بحملةٍ بَحريّةٍ ضدّ الاحتلال الإسباني لتونس انتهت بمعركة "حلق الوادي" في 1574، وآلت تونس بعدها إلى ولاية عثمانية صغيرة بين ولايتين كبيرتين: طرابلس الغرب والجزائر.

في هذا السياق تكشف الوثائق العثمانية عن عدم استقرار حدود هذه الولاية، بسبب مطالب حُكَّام الولايَتين المَذكورتَين بضمِّ بعض المدن والمَناطق مثل القَيروان، وغيرها من النواحي التي ضُمّت إلى ولاية طرابلس الغرب، ثمّ أُعيدَت لاحقاً بِناءً على مطالب السُّكان. وبقي هذا التخبُّط حتّى 1576 - 1577 حين تمّ إلحاق تونس بولاية طرابلس الغرب، ثمّ فصلها ثانيةً وتعيين حيدر باشا والياً عليها. ومن ناحية أُخرى، بقي النّزاع حول قابس وصفاقص بين الولايتَين إلى أن صدر الحُكم السُّلطاني عام 1588 بعودة لواء صفاقص إلى ولاية تونس.

وعلى عكس ما يُعتقد، لا تجمّلُ الوثائق الموجودة في هذا المُجلَّد الحُكم العثماني الجديد، بل تقدّم صورةً موضوعيةً لِما هو موجود، سواء من اهتمام المركز بالرَّعية أو من تعدّي الوُلاة على الرَّعية. ومن هذا لدينا عريضةٌ مرفوعةٌ من أحد الأمراء المحليين (أبو الطّيب أمير القيروان) في 1576، إلى السُّلطان يتّهم فيها واليَ تونس رجب بك بالتجاوُز والتَّعدي على الرَّعايا والتورُّط في قضايا فَساد واغتصاب أموال الفقراء واختلاس وهدر أموال الخَزينة، وتأكيد أعيان تونس على ذلك، وهو ما جعل السُّلطان يُطالب بالتّحقيق واستردادِ ما يُثبت على الوالي ورجاله من حقوق. ولدينا عريضةٌ مشابهةٌ من أهالي تونس عام 1585، يتوجّهونَ بها إلى السُّلطان ويتَّهمون فيها والي تونس مصطفى بك بأنّه "اغتصب حقوقهم خِلافاً للشّرع الشريف  ومارسَ الظُّلم والتعدي بشكل كبير عليهم"، وهو ما جعل السُّلطان يُخاطب قاضي الولاية بالتحقيق واسترداد الحقوق دون "أن يبدي المحاباة لأيّ طرف".

قدّمت "الوثائق" العثمانيين موضوعياً بين الرعاية والتعدّي

ومن ناحية أُخرى، تكشف الوثائق المتعلّقة بالجانب الاقتصادي أيضاً عن فساد في الإدارة أدّى إلى عجزٍ في الميزانية نتيجة تراجُع موارد الخَزينة، وهو ما أدّى عام 1580 إلى التوقُّف عن إرسال الخَزنة السنوية من الولاية إلى إسطنبول التي كانت تبلغ 25 ألف ليرة ذهبية. ويبدو أنّ هذه الحالة استمرَّت، لأنّه لدينا حُكم سُلطاني موجّه إلى قاضي تونس في 1584، يُبلّغ عن إخضاع الرَّعايا في تونس لدفع الرُّسوم وإعفاء الأغنياء منها ممّا أدّى إلى عجزٍ في الخَزينة. 

من الوثائق العثمانية عن تونس - القسم الثقافي
من الوثائق العثمانية عن تونس

ومن هذا الفساد الذي أثّر على الحياة الاقتصادية لدينا عريضةٌ من الأهالي إلى السُّلطان العثماني في 1585 تكشفُ عن قيام وُلاة تونس بشراء بضائع التُّجار بثمنٍ بخسٍ وبيعِها بعدَ ذلك للأهالي بثمنٍ مُرتفع. وتكشف وثائق أخرى تعود إلى عامَي 1587 - 1588 عن تنامي دور العسكر الإنكشارية وقيامهم بابتزاز كلِّ والٍ جديدٍ لمنحهم أُعطيات جديدة، وهو لم يكن وارِداً في الولايتين المجاورتين، وهو ما كان يُرغم الوُلاة إلى تعويض ذلك بفرضِ ضرائبَ جديدةٍ على الأهالي الذين كانوا يَشكون ويهدّدون بالنُّزوح عن مناطقهم، ممّا جعل السلطان يؤنّب الوالي لأنّ "أهالي الولاية لم تعُد لديهم القدرةُ على البَقاء بسبب كثرة الظّلم والتعدي ممّا أدّى بمعظمهم إلى النزوح عن الوطن".

ومن ناحية أُخرى، نجد أنّ الوثائق العثمانية تكشفُ عن ميل السَّلطنة لتثبيتِ الأمراء المحلّيين بعد إعلان ولائهم للدولة العثمانية، ومن ذلك تثبيت شيخ جزيرة جربة وأميرها الشيخ أبو نوح بن صالح (1552) بعد إعلان ولائه للدولة العثمانية. ولكن في المقابل نجد في وثيقة أُخرى أنّ أهالي جزيرة جربة رفعوا عريضة إلى السلطان (1594) اتّهموا فيها شيخ جربة الشيخ محمد بممارسة الظُّلم والتعدّي على الأهالي، ممّا جعل السُّلطان يأمُر بإلقاء القبض عليه والتحقيق معه ونفيهِ إلى طرابلس الغرب.

وفي ما يتعلَّق بجزيرة جَربة، نجد أنّ بعض الوثائق تشيرُ إلى نزاعٍ بين طائفتين من السُّكان المحلِّيين فيها (الوهبية والمستاوية)، وتكشف وثيقة تعود إلى 1572 عن قِيام الوَالي بالكِتابة إلى السُّلطان مُتَّهماً المدعو عمر، شيخ المستاوية، بإثارة الفتنة واتّباعِه لمذهب "خارج المذاهب الأربعة"، والمقصود هنا المذهب الإباضي الذي انتشر في الجزيرة، ولذلك يطالب السُّلطان بإبعاده إلى طربلس الغرب، وهو ما أمر به السُّلطان في حُكمه الذي صَدر في العام المذكور. وحول هذا لدينا وثيقةٌ أُخرى تعود إلى عام 1580 تُفيد بأنّ "العُصاة الخارجين على المذاهب الأربعة" سيطروا على "قلعة عقبة" قرب قفصة ممَّا جعل أعيان المنطقة يهدِّدون بالنزوح إذا لم يتدخَّلِ الوالي، وهو ما جعله يُرسل حملةً عسكريةً لاسترداد "قلعة عقبة".

ومع هذا يُمكن القول: إنّ هذه الوثائق تُقدِّم صورةً واقعيةً عن بدايات الحُكم العثماني لتونس، أي أنّها لا تقدّم صورةً مُجمَّلة لهذا الحُكم، ممّا يكسبها مِصداقيّة كبيرة. ولكن للأسف تقفُ وثائق هذا المُجلّد عند نهاية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وهو ما يُحفّز على الأمل بأن يقوم الجيل الجديد من الباحثين بنشر المزيد من الوثائق العثمانية عن تونس خلال القرون اللاحقة لكي تكتمل صورة "تونس الخضراء" عندما أصبحت أكثر استقلالية عن إسطنبول.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون