لا يختلف اثنان على عمق الأزمة التي يمرّ بها لبنان، أزمة بدأت اقتصادياً وسياسياً ثمّ سرعانَ ما امتدّت لتشمل مناشط ثقافية مختلفة، ويبدو أنّ القيّمين الفنّيين بدأوا يستعينون بإسقاطات ونصوص مختلفة لتمثيل الواقع الصعب. ولكنّ السؤال يبقى: إذا كانَ الوعي الفنّي في أعلى مراحل حساسيّته بما يُحيط به من تحدّيات، فلماذا لا يخلق نصّهُ الأصيل بعيداً عن الإسقاطات، ألا تُشرّع هذه الالتفاتة إلى وقوف واستلهام قد يطول أكثر، أم أنّ الأمر يتعلّق بطبيعة النّص المُستلهَم والتحدّي المتمثّل بكيفية قولبته مع الحاضر.
آخر تلك الإسقاطات، أو الاشتقاقات لو راعينا أنّ مقداراً من الإضافة لا بدّ أنه موجود، كان العرض المسرحي الذي حمل عنوان "العادلون" (90 دقيقة) للمخرجة اللبنانية كارولين حاتم، ويستمرّ عرضُه على خشبة "مسرح مونو" ببيروت حتّى السبت المقبل (الرابع من حزيران/ يونيو الجاري)، ويشترك في الأداء كلّ من الممثّلين؛ جوزيف عقيقي، سارة عبدو، وريان نيحاوي، وماريا دويهي وحمزة أبيض يزبك، ربيع عبدو.
تقوم فكرة العرض على المُقاطَعة بين زمنين أكثر من القول إنّها استلهام نصّ وحسب، في الزمن الأوّل وضع فيه الكاتب الفرنسي ألبير كامو عام 1949 عملَه "العادلون"، أمّا الزمن الثاني فتقدّمه حاتم اليوم، لتعيد تمثيل أزمة سياسية يعيشها البلد منذ انتفاضة 2019، مستعينةً بحمُولة من الإشارات التي تتخلّى عن دورها الغامض من أجل أن تقول الأشياء مباشرة، ولتضعَ المُشاهِد أمام نوعٍ من المُعضِلات الإنسانية التي درجَ وجوديّو القرن الماضي على الوقوف عندها.
التأثيث المتقشّف للخشبة يعكس رهان المسرحية على الجوهر فقط
ينطلق كامو في نصّه من لحظة انتهت فيها مآسي الحرب العالمية الثانية التي صاغت بكثير من العنف مسارات الفلسفة والأدب، وليس فقط التاريخ والسياسة، أسئلة عن معنى الوجود وأحقيّة المعنى التي راحت تضغط بقوّة في عالم ما بعد القنبلة النووية والكائن البشري المُهدّد بالانقراض. للوهلة الأولى يبدو من الفداحة بمكان القياس على تلك اللحظة والاشتقاق منها، وإن كان الراهن اللبناني الممتدّ من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 مروراً بكارثة انفجار المرفأ في آب/ أغسطس 2020، وليس انتهاءً بالانتخابات النيابية الأخيرة على سبيل المثال، لا يقلّ فجائعية.
الخليّة الثورية التي تخطّط لاغتيال رجل السياسة الفاسد، هذه هي الفكرة النواة التي اشتغلَ عليها كامو ليرسمَ للعَدل مصيرَه الذي تدفعه الأيادي والقلوب المتحمّسة بغضب، ثمّ يرتطم بوجه الطفولة الضعيف، إذ يُصادَف وجود أطفال في اللحظة المواتية لاغتيال ذلك السياسي، فيلتغي تنفيذ العملية.
وفي سياق متّصل بالحديث عن الخلفيّات الفلسفية وأيّ مفهوم للعدالة يسعى إليه البشر، فإنّ حضور هكذا فكرة قد انعكسَ على بُنية النّص الذي قدّمته حاتم والسينوغرافيا المُتقشّفة، حيث تعكس حياة مجموعة من الحالمين بالتغيير، وهم بطبيعة الحال لا يكترثون بالقشور بقدر تركيزهم على الجوهر، باستعداد مثالي للتّضحية بأنفسهم، وإنْ تخلّلَ الأداءَ شيءٌ من المُبالغة الصادمة المحمولة على صوت "الرابر" الشهير بالطفّار والذي ارتبط اسمُه بتمثيل الانتفاضة اللبنانية وهموم الناس.
لا يبتعد مصير النسخة اللبنانية من "العادلون" عن القَدَر الذي رسَمه كامو لأبطاله، هي المُعضلات الهشّة أو ربّما المتجسّدة في وجه طفولة بريئة تقدر وحدها أن تضع حدّاً للقسوة، وإن كانت مجرّد حدود من جهة واحدة، جهة المُستضعفين والملتزمين بحمولة أخلاقية في هذا الوجود، فصحيح أنّ الخلية الثورية لم تُنزِل حُكمَها ولم تصل إلى حُلمها حول العدل، ولكنّ أحداً لا يضمن إن كان ذلك السياسي الفاسد لم يَعُد إلى عادتِه في أن يبقى ظالماً وعدوّاً للناس كلّ الناس.