لستُ إنساناً؛ أنا شاعر. لا أدري تماماً ما الذي تعنيه هذه الجملة، لكنّني أشعر أنها صحيحة في حالتي، ويبدو لي من الصواب قول ذلك. أمّا وأنا أعلن بأنّي شاعر أكثر من كوني إنساناً، فهذا لا ينطوي على أيّة مثلبة ولا مَنْقبة.
الشاعر ليس إنساناً أكثر اكتمالاً من غيره، بل شيءٌ يشبه ما قبل الإنسان، مسوّدة إنسان، محاولة فاشلة للوصول إلى الإنسان والواقع. أشعر وكأنّني في مكان يشبه دهليزَ جهنّم، أقف فيه على التّخوم البشرية ولا أقوى على عبورها، كما لو كان هناك خطرٌ على الجانب الآخر لا تعتريني أيّة رغبة في المجازفة وبلوغه.
وفي الوقت عينه، من الخطير أن أبقى حيث أنا، أؤجّل لحظة العبور، مكتفياً بالرَّحِم الرمزيّ لكلمات أسجن نفسي داخلها. لكنّ الواقع ليس مكاني، ربما لهذا السبب أستطيع أن أرى بعضاً من ملامحه حيث أجدني: أُراوح بين البُعد والحميمية.
■ ■ ■
مرض الشِّعر
الشِعر مرضٌ، قالها كافكا. الشاعر الذي ينشر أشعاره هو كمن ينشر فيروساته، أعطابه، أنسجته التّالِفة. الشاعر يتحرّق للشفاء، أو، على الأقلّ، للمواساة، لكنّه في الوقت عينه لا يفكّر في حماية نفسه من العدوى.
الشعر حالةٌ من الحداد، عندما يتمّ بثُّه يُصبح شيئاً أشبه بمنكوب يتجوّل طالباً التعازي. هذا الفعل يضع حالة الحداد موضع شُبهة، كما لو أنّنا نقف أمام شخص يريد بَيْعَنا أسهُم ألمه، أسهمَ منذورةً للنزول ـ لا محالة ـ في مجتمعٍ يبكي فيه الجميعُ، حيث يختلط الموتى الذين لم يحظوا بمجلس عزاء مع مجالس العزاء المقامة بلا ميت.
يقف الشاعر على رأس شركةٍ مفلسةٍ لأنّ كلّ بضائعه كاسدة، مع أن الهدف من الشركة نفسه هو تكديس البضاعة. وحتى لو بدا أن المُنتَج قابلٌ للبيع، فالشاعر لا مردودَ لهُ مِنه، لا وجود لريع، وعليه دائماً أن يبدأ من جديد. الشعر فعلٌ مناهض للرأسمالية على نحو جذريّ، فهو لا يقبل أيّ شكل من أشكال التراكم. الجرح القديم هو دائماً جرح جديد.
■ ■ ■
غرق الأدب
ذات مرة كان هناك أدبٌ، وكان هناك أدباء. تخيّلوا بحراً مملوءاً بالأسماك. أمّا الآن، فلا يوجد سوى أسماك كثيرة، من جميع الأحجام والأشكال، في حين أنّ البحرَ قد اختفى.
حدثَ ذلك في غفلة من الزمن، دون أن يعلن أحدٌ من الخبراء ذلك. أدركنا الأمر عندما التقينا بشاعر عن قُرب، أو تحدّثنا إلى روائي على الهاتف. شَعَرنا أن شيئاً ما لم يعد موجوداً. كلّ واحد له كتبه، وكلماته، إلّا أن المسالك التي كانت توصل الأدباء ببعضهم انقطعت، وبين مَن يغادر ومَن يبقى على قيد الحياة لا يوجد فرق، كما لا يوجد فرق بين الجبان والمقاتل.
اليوم، تسود حالة من اللامبالاة الهادئة بين الكتّاب، والبون الذي يفصل أولئك الذين يكتبون يزيد من المسافة بين الكاتب والقارئ. الأدب عبارة عن سفينة تَغرق، كلّ واحدٍ يُطلق من فوقها كتبَه، كإشارات رصدٍ لا يراها أحد لأن الجميع منشغلون في أن يتمّ رصدهم. الأصوات لا تتجمّع ببعضها ولا تعلو. وغدا الأدب كبرتقالة افتراضية: لكلٍّ حِزُّه، ولكن أين العصير؟
■ ■ ■
ماخور اسمه فيسبوك
منذ بعض الوقت بدأ فيسبوك يتراءى لي كشارع أمستردام الأحمر. يقف الجميع على النوافذ عارضين بضاعتهم. هذا يُظهر أردافه، وذاك يشرع فَخِذَيه. سلسلة منوّعة من السِّلَع تبحث لها عن مشترين في وضع يائس يطغى فيه العرض على الطلب. يدرك المشترون ذلك، ومن هنا تولّدت شخصية المشتري الساديّ، الشخص الذي يدخل المحلّ، يتجوّل حول البضائع ثم يخرج ببساطة تاركاً تعليقاً ساخِراً.
لا يوجد أيّ فرق بين أولئك الذين يَظهرون بساق مبتورة، وعيون مجنونة، وأولئك الذين يتظاهرون بأنهم هنا لأنهم يريدون تغيير العالم؛ أولئك الذين يتظاهرون بالسخط والثورة، باختصار، يتظاهرون بأنهم كتّاب.
"فيسبوك" مخلوقٌ موارب لأنه يدفعك للكتابة، لكن ضمن مناخ تلفزيوني. على مَن يكتب، ومَن يُعلّق، أن يقرّر في أيّ صفّ يجب أن يقف كلّ مرة، مع العلم أنه منذ أن توقّفنا عن الإيمان بما هو غير مرئيّ ومقدّس، لم نعد نكتفي بكلّ ما هو مرئي ومدنّس.
■ ■ ■
كتاب بلا نهاية
أصبح العالم الرمزيّ حقيقياً والعالم الحقيقيّ رمزيّاً. في هذا الوضع يجد الشاعر سبباً آخر للاغتراب، لأنه في كلّ مرّة يجد فيها الشاعر عالماً يجد له أيضاً منفىً. وإن أصبح هناك عالمان، فالمنفى سيغدو مزدوجاً.
لطالما اعتبرنا الشعر حقيقةً هامشيّة، حرفةً لأرواحٍ مصطفاة، أرواحٍ تحمل هوس الاشتغال على اللغة. أمّا الآن، فالأشعار يكتبها الجميع. ولم تعد المشكلة تكمن في كتابة الأشياء الجميلة، بل في تعميم ما نكتب.
كأنّنا في مدينة تعيش ساعة الذروة. الجميع يخرج إلى الشارع بسيّارته دون أن يتحرك. ويخرج الكلّ الآن على الشبكة بكلماتهم دون أن يُقرأوا. القراءة تستدعي نصّاً له بداية ونهاية أمامنا. نصّاً يمكن أن يصل طولُه إلى ألف صفحة، لكنْ ينبغي أن تكون حدوده واضحة.
على الشبكة، ليست لدينا نصوص؛ نصوصُنا تندرج ضمن كتابٍ بلا نهاية، لا يتوقّف الجميع عن إضافة صفحاتهم الخاصّة إليه. أحياناً يبدو لي أنه، كي تُقرَأ، عليك أن تمزّق صفحتك وتختفي. الصفحة الوحيدة المقروءة هي الصفحة الفارغة.
* Franco Arminio شاعر وكاتب ومُخرج إيطالي من مواليد 1960، يُعدّ من بين أبرز كتّاب إيطاليا المعاصرين، ومن أكثرهم مبيعاً في السنوات الأخيرة. أسّس حركة "الباييزولوجيا"، وهي تيّار فكري يتّخذ من البلدة، بحجمها الجغرافي الصغير، نواةً مُلهمة تبرز معها سمات حركة فنّية تنأى بإرادتها عن الحواضر وتُقاوم حصار النماذج الموحَّدة التي تطرحها وسائل الإعلام الكبرى. صدرت له قرابةُ ثلاثين مجموعةً شعرية. والنصوص هنا منتقاة من بين الصفحات النثرية التي تضمّنتها مجموعة أرمينيو الشعرية "أفسح الطريق للأشجار: قصائد حب، قصائد أرض"، الصادرة عام 2017.