في بداية الأسبوع الجاري، أعلنت واحدة من أقدم دور النشر الفرنسية؛ مؤسسة "أرمان كولان" (أُطلقت في 1870)، أنها طلبت من مجموعة من أساتذة التاريخ أن يراجعوا كتاب "تاريخ فرنسا" للمؤرخ أرنست لافيس (1842 - 1922)، وهو عمل صدر عام 1913 ويعدّ المرجع الذي تنهل منه الكتب المدرسية الفرنسية في كل ما يتعلق بتاريخ البلاد، ويعني تبديل أي معلومة فيه تغييرات شاملة في قضايا مفصلية من هذا التاريخ، مثل عصر الأنوار والثورة الفرنسية والاستعمار وخصوصاً الصورة التي يمنحها لشعوب أخرى، لعلّ أكثرها إشكالية انقلاب العلاقات مع الجار الألماني من "شيطنة" - خلال القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين - إلى الحليف الاستراتيجي الأول.
تعتَبر "أرمان كولان" أنه من غير المعقول أن يفهم طفل أو شاب من القرن الحادي والعشرين تاريخ فرنسا بنفس الطريقة التي فهمه بها طفل القرن العشرين، والذي قد يقابل جداً من أجداد تلميذ اليوم. على وجاهة هذا التوضيح، فإن مؤسسة النشر تسكت عن أسباب موضوعية أخرى قد تكون هي التي دفعت إلى التفكير في هذا المشروع، مثل تغيّر التركيبة العرقية في فرنسا خلال قرن بفعل موجات الهجرة (والتي هي نتيجة فرعية عن الاستعمار)، والضغط الذي تمارسه تيارات فكرية عديدة مثل النسوية واللامركزية الثقافية، فضلاً عن داعمي حقوق الإنسان، وهي جميعاً تجد في التاريخ الفرنسي بروايته الرسمية مآخذ سيكون من الضروريّ حسمها، دون أن ننسى الدعوات واسعة النطاق إلى مراجعة التاريخ الاستعماري لفرنسا، والذي يسمّيه لافيس بـ"التاريخ الإمبراطوري".
تيارات فكرية كثيرة تضغط لإنهاء مغالطات "التاريخ الإمراطوري"
ورغم أن الخطوة تأتي من دار نشر مستقلّة فإن ذلك يعني إشارة إلى أن شيئاً ما يتحرّك ضمن الثقافة الفرنسية ليدفع الجهات الرسمية نحو مراجعات أكثر جدّية في كتب التاريخ التي تقدّم للتلاميذ وتصنع وعيها للعالم الذي تعيش فيه.
بشكل عام، لا يمكن القول إن مشروع "أرمان كولان" مبادرة أحادية، فمن المعلوم أن مؤرّخين كثيرين دخلوا هكذا مشاريع، منهم صاحب كرسيّ التاريخ في "كوليج دو فرانس" باتريك بوشرون والذي سهر على إنجاز مشروع كتابة تاريخ عالمي لفرنسا صدر في كتاب جماعي عام 2017. كما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد دعا منذ أشهر إلى كتابة تاريخ جديد للحرب مع الجزائر وكلّف مؤرّخيْن بذلك.
يبقى أن نعرف بأي نوايا تجري مراجعة التاريخ الفرنسي؟ هل يتعلّق الأمر باقتناع بأن مياهاً كثيرة جرت من تحت جسور القناعات الثابتة بـ"عظمة الأمة الفرنسية" كما غذّاها الملوك من أسرة بوربون ووصلت ذروتها مع نابليون ثم تعود من حين لآخر ضمن الخطاب الرسمي للجمهورية الخامسة، أم يتعلق الأمر باستشعار موجة عالية من الاحتجاج على مقولات التاريخ الفرنسي، ليس فقط من أبناء المستعمرات القديمة أو الفئات الاجتماعية المهمّشة، بل حتى من داخل أروقة الأكاديميا حيث لم يعد بعض المدرّسين يقبلون مغالطة طلبتهم بما لا يقبله عقل.