مدينة المدن

27 سبتمبر 2020
غرافيتي في بيروت للفنان الكوبي خورخي رودريغز- غيراد (Getty)
+ الخط -

لست من مواليد بيروت، بل لست من أبناء المدن، فقد وُلدت في الريف الجنوبي حيث كان أبي يعمل مدرّساً في قرية "شحور". يومها كان المدرّس الفرد في قرية يدير مدرسةً كاملة بصفوف عدّة. كنتُ ابن تسع حين غادرنا القرية إلى أقرب المدن إلينا "صور" التي كانت يومذاك مدينة في طور النشوء.

كنتُ مراهقاً، بل في مطالع المراهقة، يوم استقللت الباص إلى بيروت. أتذكّر أنني حينها شاهدت فيلم سينما وأكلت رغيف فلافل، وبما تبقّى لي من المال استقللت الباص عائداً إلى صور. أظنُّ أنَّ هذه قد تكون رواية كثيرين سواي. الطريق إلى بيروت كانت حتماً علينا في أوائل صبانا، قبل أن تغدو بيروت لنا، وإن من بعيد، كلّ حياتنا. كنّا نكتشفها شيئاً فشيئاً، ليس فقط سينماتها، بل ومكتباتها ومقاهيها وأنحاءها. فعلت كلّ ذلك وحدي لكني لم أبق وحيداً فيه. كل مكان فيها، كنت أجد بسرعة، وأحياناً فوراً، أنه مكاني، وأنني هناك أعثر على لداتي وجوّي وبيئتي.

في المقهى، على وجه الخصوص، لم أكن أحتاج إلى وقت حتى أجد صحباً أعثر معهم على كلامي وعلى مسائلي. أنا الذي كنت في أوائل تجربتي في الأدب، كنت أجد أشباهي، وبعضهم تمرّس أكثر في هذا المجال. معهم كنت أجد أسئلتي وشواغلي ونوازعي.

استمرّت المدينة فيما كان مشروع الدولة يخمد وينطفئ

كانت بيروت، من بعيد تربّيني وتعيد إنشائي. كنت هكذا واحداً من كثيرين تبسط أمامهم بيروت، هم الآتون من أرياف وبوادٍ وبلدات، آفاق حياة جديدة، تتكوّن بسهولة وتتلبّسنا ببساطة، كأنّنا كنّا مستعدّين لها، بحيث لا نشعر بذلك، إلّا حين ندخل أو تدخل هي معنا في أحد الصراعات، التي كان وجودها ووجودنا معها طافياً عليها. إذ ذاك نفهم أن كل المدن الحقيقية قائمة على تناقضات وانقسامات، وأنها لم تكن ما صارت عليه لولا هذه الصراعات، التي تحدّد وتطلق، في آن، وجودها، وتعرضه، في نفس الوقت، لتحدّيات وأسئلة صاعقة.

كانت بيروت، وهذا ما لم نتبيّنه ويتبيّنه الآخرون، إلّا بعد أمد طويل، في مهب نشوء مدينة. كان تاريخها الحديث يتكوّن من نهايات مجتمعات ومن حروب همدت حولها وفيها، أو انتقلت هامدة إليها. كانت هكذا صورة مصغّرة للمنطقة التي وجدت فيها مستودعاً لأزماتها، ومحلاً لتصريف هذه الأزمات والتخلّص منها. لقد كانت هنا العواقب مباشرة للهزائم والحروب الخاسرة والانقلابات والاستبدادات والعسف السياسي والاقتصادي.

لقد كانت هنا، بطريقة أو بأُخرى، كلّ العناصر المكفوفة لتكوين مدن في المنطقة، وكلّها تداعت لتكون على شاطئ المتوسّط مدينة المدن هذه، وفيها تقريباً خلاصة المشروع الذي تهدّمت عليه، وفوقه، كلّ العوامل الأهلية والتقليدية، لإفشاله ولتجعل من وجود مدينة ودولة أمراً مستبعداً. لقد أُرجئ هذا المشروع وتُرك، بكل عناصره المتفجّرة، إلى تلك المدينة، التي كان عليها أن تتنازع فيها مقوّمات المدن، وتقوم فيها دولة هي الأخرى متروكة لنزاع دائم، يفكّكها إلى أن كان الانفجار. ليس الانفجار الحالي فحسب، بل والانفجار اليومي في كل المرافق والمؤسّسات.

صورة مصغّرة للمنطقة التي وجدت فيها مستودعاً لأزماتها

الانفجار الذي ينتج عن غياب الدولة، وبالتالي الإهمال الكلّي لكلّ المرافق التي تتسمّى بالدولة أو تنتمي إليها. كانت بيروت، بالتالي، تلك المدينة الملتوية التي عليها في كل آونة، أن تواجه كلّ هذه العناصر المشتعلة والانفجارية داخلها، في حين تستمر في هذا التكوّن الانفجاري مالكة، مع ذلك كلّه ما تمتاز به، وما يجتذب إليها الآخرين، الذين يهربون إليها من استبداد مجتمعاتهم وتجوّف سلطاتها، وبالتالي افتقادهم إلى مجرى حياة يومي قابل للتجدّد والمفاجأة والتنوّع.

كانت بيروت، بدون شك، هي لبنان، وقد سحبت من كلّ المدن الأُخرى هذه الصفة بحيث تراجعت هذه، وتحوّلت شيئاً فشيئاً إلى محض بلدات. صارت بيروت لذلك مدينتها هي أيضاً، صارت من هذه الناحية مدينة المدن. ورغم أنها كانت تعكس في أحيائها وأقسامها كل التركيبة اللبنانية، إلا أنها وحدها كانت تقوم، عن الجميع، ببناء حرّ ومتنوّع وغير تقليدي، رغم أنها حافظت في داخلها على نزاعات المجتمعات اللبنانية، وحتى على حدود هذه المجتمعات التي توزّعت في مناطق مستقلّة تقريباً في المدينة.

لقد استمر المجتمع التقليدي بازدواجية صارخة. كانت الطوائف تحمل معها إرث الريف وثقافته، فيما كان النمط الغربي يتعايش مع ذلك ويموّهه أيضاً. كانت بيروت، وهي بهذا الفصام، عنوان ثقافة حرّة، وكانت، وهي لبنان كله، مشروع مدينة يحمل أيضاً أفق دولة. لكن هذا الامتياز المزدوج لم يعش طويلاً، انتظرته الحروب في كل مرحلة، وفي النهاية استحال إلى مجرّد سراب.

بقي مشروع الدولة، رغم كل هذا الازدواج وكل هذا الغليان، استمر رغم كل العوائق. لقد كانت المدينة تولد، وعلى نحو ما وبصيغتها هي، رغم الحروب الأهلية المستمرّة، سواء كانت معلنة أو مضمرة، ورغم التركيبة التقليدية والعنصرية الكامنة. من قال إنّ هذا يمنع قيام المدن. لقد استمرّت المدينة في القيام فيما كان مشروع الدولة يخمد وينطفئ، والآن هذا الانفجار، من يضمن بقاء المدينة!


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون