عند الحديث عن المخطوطات العربية أو المؤلّفات التراثية، غالباً ما يتمّ تناول الكُتب والإنتاجات في عصور التدوين التي تُوصَف عادةً بالذهبية، والتي انتعشت فيها حركة الترجمة والتثاقُف مع الحضارات المجاورة، وهذا يعيدنا إلى القرن الثاني للهجرة وما تلاه.
لكنْ، هناك تراثٌ أقرب ونهضوي، يعود إلى القرن التاسع عشر، ولا بدّ من النظر في إنتاجاته، خاصّةً أنّ مؤلّفات هذه الحقبة لا تخلو من اجتهاد أسَّس لقِيَم المجتمع المعاصر الذي نعيش فيه اليوم، وكان له تأثير على أساليب الكتابة والتدوين الحديثة أيضاً.
ويحضر الطبّ بوصفه واحداً من أبرز العلوم التي شهدت وضْعَ تآليف فيها، خلال تلك المرحلة الانتقالية، والتي تفصل بين مرحلة العِلم التقليدي والمرحلة الحديثة؛ ومنها كتاب "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبّية"، الذي جمعه اللغوي المصري محمد بن عمر التونسي عام 1820، والذي كان يعمل مدقّقاً لغوياً في جريدة "الوقائع المصرية"، لكنّ مخطوطة هذا الكتاب لم تر النورَ عربياً، إذ ظلّ مُحتفَظاً بها في "المكتبة الوطنية الفرنسية" بباريس.
يُشكّل المعجم صلة وصل بين الطب الحديث والتراثي
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، انتهى الباحث المصري محمود مهدي من تحقيق المخطوط بعد ثلاث سنوات من العمل عليه، بالتعاون مع "مركز تحقيق التراث العربي" التابع لـ"جامعة مصر للتكنولوجيا"؛ إذ لم يكُن المؤلَّف متاحاً قبل ذلك إلّا من خلال نسخة ضوئية موجودة في "دار الكتب المصرية"؛ وبهذا يكون التحقيق الذي أنجزه مهدي هو النسخة الأولى والكاملة من واحد من أوائل المعاجم العربية في الطبّ الحديث.
ضمن هذا الإطار، أعلن "معهد المخطوطات العربية" في القاهرة، مؤخّراً، اختيار "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبّية" كتابَ العام للبحث التراثي بالوطن العربي؛ وذلك بوصفه "موسوعة تُعدّ من أهمّ وأشمل المعاجم الطبّية التراثية، ولكونها تمثل حلقة الوصل بين الطبّ القديم والطبّ الحديث"، حسب ما جاء في تقديم الباحث أنيس الفقي.
كما من المقرّر أن يُقام في العاشر من أيار/ مايو المُقبل حفلٌ لإشهار الكتاب تحتضنه وزارة الثقافة العراقية ببغداد، ويُكرَّم فيه المُحقّق، الذي يحاضر أيضاً حول مضامين العمل، وأبرز المحطات التي اشتغل عليها أثناء تحقيقه إيّاه.
هذا ويتألّف الكتاب من خمسة أجزاء، وهو مقسّم وفقاً لتسلسُل حروف الأبجدية العربية. وتعود فكرته الأولى إلى حاجة القائمين على "مدرسة طبّ القصر العيني" (كلية الطب في "جامعة القاهرة")، في عهد محمد علي باشا، إلى وجود معجم للمصطلحات الطبّية يُساعد الطلّاب في متابعة دراسة الطب الحديث، ومادّته مأخوذة من مصدرين أساسيين، هما: معجمٌ طبّي فرنسي يقع في 8 أجزاء، إلى جانب ما أضافه عليه ابن عمر التونسي من مصطلحات استخرجها من كتاب "القانون في الطب" لابن سينا و"تذكرة" ابن داوود الأنطاكي.