لم أكن سمعت بالروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح قبل أن يفوز بـ"جائزة نوبل للآداب". لكنّ كوننا لم نسمع باسمه لم يمنعنا من أن نحتفي بأصله الحضرميّ. لقد فاز بـ"نوبل" أديبٌ هو، من حيث لم تحتسب الأكاديمية السويدية، ولم يحتسب العالم، وربما لم يحتسب هو، ذو دم عربي.
هكذا احترنا بين تنزانية عبد الرزاق وحضرميته وإنكليزيته. يكتب قرنح بالإنكليزية ويعيش في إنكلترا، وليس الإنكليزي الوحيد الذي يتحدّر من أصل غير إنكليزي، فثمّة مروحة من الأدباء الإنكليز الذين يحملون أسماء أجنبية. نذكّر بأن الأديب الإنكليزي الذي نال "نوبل للآداب" مؤخّراً، كازو إيشيغورو، من أصل ياباني، كما نذكّر بسلمان رشدي الهندي الأصل، ونور الدين فارح الصومالي.
بيد أن فوز قرنح بـ"نوبل" استحضر بقوّةٍ شرق أفريقيا، المنطقة التي تضمّ، إلى جانب تنزانيا، أوغندا وكينيا ورواندا وجنوب السودان. أمّا ما يتّصل باسم قرنح وأصله الحضرمي، فهو من زنجبار التي كانت، إلى وقت، جزءاً من الإمبراطورية العُمانية، التي يحكمها إمامٌ إسلامي. استُعيد شرق أفريقيا، وزنجبار منه، في سيرة قرنح وموضوعات رواياته. بيد أنه لم يخطر لي أنني سألتقي ــ ونحن لا نزال في الحديث عن قرنح وزنجبار ــ في لبنان، في مدينة صور، بمحمد طَرَزي، العائد من زنجبار. لم يخطر لي أنني سألتقي هكذا بروائي شاب (1983)، هو الآخر يستمدّ موضوعات رواياته من شرق أفريقيا.
تحمل روايتاه "ماليندي" (2019) و"عروس القمر" (2021) اسمَيْ ماليندي وموهيلي الموجودتين في شرق أفريقيا، كما تحمل الروايتان ما يمتّ إلى تاريخ المنطقة، بل وما يستعيده ولو بالخيال الى جانب الواقع. الروايتان الآنفتان هما من تاريخ يجمع العرب والملغاش والسود، ويحضر فيه العالم الكولونيالي الفرنسي الإنكليزي البرتغالي المتنازِع على المنطقة، كما يحضر فيه، من قريب أو بعيد، التاريخ العالمي آنذاك.
"ماليندي، حكاية الحلم الأفريقي"، عنوان الرواية، يستعيد الحلم الأميركي، وليست أميركا التي، على كل حال، هي بعيدة عن ماليندي، الدويلة الأفريقية الغائرة في التاريخ. بل العالم كله ليس بعيداً عن ماليندي التي لا نعرفها إلا بالاسم. ماليندي هي هذه الدويلة الأفريقية الإسلامية التي تضمّ عرباً وملغاشاً وسوداً، بل وتضمّ إلى جانبهم يهوداً، فهي الموطن الجديد ليهود الفلاشا الإثيوبيين الذين طُردوا من الحبشة.
مثل قرنح، يستمدّ محمد طَرَزي موضوعاته من شرق أفريقيا
في ماليندي سنواجه الصراع العالمي على أفريقيا. لكنّنا في مجالس شيخها سنسمع السجال عن كُروية الأرض، وفيها سنلتقي بابن ماجد، الملّاح العربي الشهير، وبفاسكو دي غاما، المستكشف المعروف، وسنسمع بكريستوف كولومبوس واكتشاف أميركا. سنعثر ــ مع ابن ماجد، وسيف ابن حاكم ماليندي ــ على الهند. اي أننا من "ماليندي" سنكون في وسط العالم، وسنكون، في ذات الوقت، وسط المجتمع الشرق أفريقي بسوده وعربه وملغاشيه.
رواية طَرَزي، لذلك، مفاجئة. إنها تبني على التاريخ وتبني على الخيال الذي يبتكر ما يشبه أن يكون تاريخاً. في مطلع رواية "ماليندي" يقول طَرَزي إنه يبني روايته على ثلاث مخطوطات مفقودة ونادرة، ولا نعلم كيف تكون المخطوطة مفقودة ونادرة في ذات الوقت. أمّا المخطوطات الثلاث، "المفقودة والنادرة"، فواحدة منها لابن ماجد: "خزينة الأسرار في قواعد علم البحار"، والثانية هي "الحروب الصليبية كما لم يرها العرب" لقاضي القضاة العلّامة أبي المنصور الصقري. نتذكّر هنا كتاب أمين المعلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، ونفهم أن هذه المخطوطة المزعومة هي مجرّد استعادة بالمقلوب لكتاب معلوف، وأنها لذلك محض اختراع. على هذا نتساءل عمّا في الرواية من تاريخ حقيقي وتاريخ مزعوم يتشبّه بالحقيقة، بل يمكن القول إن المتشبّه بالتاريخ يبدو تاريخاً أكثر من الأصل التاريخي نفسه. إذ إن رواية محمد طَرَزي تبدو، من حيث الشكل، محاذية تماماً للتاريخ، بل توعز بأنها حكاية تبني على التاريخ وتصدر عنه.
"عروس القمر"، من هذه الناحية، استعادةٌ للإمبراطورية العُمانية التي نصادفها وقد تفكّكت وبقيت لها رمزيّتها فحسب. هنا يخرج الوزير الملغاشي على السلطان العربي فيقتله، لتبدأ الرواية من ابنته ووليّة عهده، فاطمة، التي يتنافس عليها وعلى سلطنتها الإمام العُماني وسلاطين المنطقة والفرنسيون والإنكليز. إنها لعبة سُلطة، لكنّ التاريخ هنا، في لعبة السُّلطة، أشبه باللعبة فعلاً، والرواية تكاد تكون لذلك أقرب الى حكاية تاريخية. بل إن نهايتها غير المتوقّعة، التي تنجو فيها السلطانة بما يشبه المعجزة من الموت، تبدو أقرب إلى الحكاية. ها هنا ليس التاريخ مزعوماً فحسب، بل إن لعبة الأمم تكاد تتّخذ مظهراً هزلياً.
* شاعر وروائي من لبنان