متى يأتي وقت الكتابة؟

06 يونيو 2024
إيتيل عدنان/ لبنان
+ الخط -
اظهر الملخص
- القراءة تُعد أساسًا لتطوير مهارات الكتابة، حيث تُمكّن الكاتب من فهم أساليب السرد وتقنيات الكتابة المختلفة، وتُعتبر ضرورية لإنتاج أعمال أصيلة ومؤثرة.
- على الرغم من وجهات نظر مختلفة حول أهمية القراءة للكتابة، تُظهر الأدلة أن القراءة المستمرة تُثري المعرفة باللغة، وتُعزز القدرة على التعبير والوصف، وتُساعد في بناء مخزون غني من الكلمات والأفكار.
- في عصر يُقلل من قيمة القراءة المتأنية، يُؤكد على أن القراءة والكتابة عمليتان مترابطتان وجزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية، حيث تُعد القراءة الدؤوبة بمثابة الهداية للكاتب نحو الإتقان الأدبي.

يبدو للكثيرين القول بأنَّ القراءة هي التمرين الأفضل للكتابة قولاً يدعوهم للتبرُّم، لأنَّ المقصود ليس مجرد القراءة، وإنَّما المزيد منها، المزيد والمزيد منها. وهناك اعتقاد مجازف لدى من يُقدِم على الكتابة، بأنَّه أوّل من يكتب، اعتقاد قد يدفعه بالمبدأ إلى كتابة ما هو جديد فعلاً، إلا أنَّه بالقدر نفسه يمكن أن يكون اعتقاداً أحمق.

في الأحوال جميعها إنَّه اعتقادٌ بطولي، لكنه يفتقر إلى الموضوعية. فالأمر في الحالات التي نعرفها، في الحالات التي نقرأ عنها، وفي الحالات جميعها أنَّ القراءة هي التمرين الأفضل على الكتابة، أو هي بدايتها. وقد درج لدى كتّاب عالميين من أمثال الروائي الأميركي هنري ميلر (1891-1980) أن يكتبوا كتباً عن تجاربهم في القراءة، وعن الكتب التي غيَّرت وعيهم.

لكن ما يحدث في الثقافة التي لا تحفل بالقراءة، أنَّ شاعراً حداثيّاً مثل محمد الماغوط (1934-2006) - أحد المؤثّرين في قصيدة النثر - اعتاد على التكرار والتباهي بأنَّه لم يقرأ المعلّقات. ويمكن أيضاً أن تشهد تعليقاتٍ لآخرين يقولون الأمر نفسه بتنويعات مختلفة في تحقير القراءة، وفي صعوبة قراءة الكلاسيكيات إما لطولها أو لعسر فهمها. حتى إن الكثير من الكتب المشهورة، مشهورة بأنَّها الكتب التي يعرفها الجميع، إلّا أنَّ قلة من قرأوها، مثل رواية "الصخب والعنف" لـ ويليم فوكنر (1897-1962).

اعتاد الماغوط على التكرار والتباهي بأنَّه لم يقرأ المعلّقات

إذاً، يحدث أن يُقال بأنَّ القراءة المواظبة ليست لازمة كي تكون كاتباً. وهذا رأي يغفل عن حقيقة أنَّ الكتابة نوعٌ من المحاكاة لكتب الآخرين. وبقدر ما هي كشفٌ للواقع، إنَّها تأثُّر بما قُرئ، وطموح للتأثير في كتب الآخرين. ثمّ، بغياب أو ضعف تأثير الكتب في الواقع، ما تزال تؤثّر ببعضها. ولاختيار ما نقرأ بالغ الأثر في كتاباتنا، لأنَّ هذا التأثير يأتي من بداهة عملية الكتابة، إذ إلى جانب الواقع، يظهر مخزون الكلمات والأساليب والصور التي حفظناها طويلاً من قراءاتنا. 

ما تفعله القراءة، بمعزل عن ورود فكرة الكتابة، أنَّها تُطلع القارئ على الأساليب التي تقصّ بواسطتها الحكايات، وتتركه على مقربة من التعبير، سواء التعبير الوصفي لما يحدث خارج الشخصيات التي يقرأها، أو ذلك التعبير عن العالم الداخلي للشخصيات وانفعالاتها وتغيّرات نفوسها. هذا لو تركت جانباً التعبير نفسه، أي اللغة، ومعرفة استخدام المفردات والتراكيب والجمل. أو بمعنى أكثر دقة، حُسن استخدام الكلمات والتراكيب والجمل. 

القراءة تقدّم الحد الأدنى مما يعوزه الكاتب، قبل ورود فكرة الكتابة لديه. والقراءة طريقة تشبه الهداية ما إن ترد فكرة الكتابة لدى أحدهم. 

ربّما تنمو الحاجة إلى القراءة، إلى جوار حاجة أخرى؛ وهي الحاجة إلى التجربة، التي إمَّا تكون تجربة في العيش، أو تجربة في الذهن، على اختلاف أنواع الروايات التي تنتجها التجارب التي تحمل طبيعة متمايزة. أيضاً القراءة نشاط يرافق الكتابة. ليست نشاطاً ينتهي ليبدأ آخر. وأحياناً يبدو قول البديهيات هذه أمراً محرجاً. لكن ما يحدث أنَّ "عصر السرعة" أضفى صفتهُ على الكثير من الأنشطة التي تقتضي بطئاً، والمزيد المزيد من البطء. وكثيراً ما يستعجل القارئ الذي وردت لديه فكرة الكتابة السؤال: ألا يكفي قراءة؟ ألم يأت وقت الكتابة؟ 

باختصار، يمكن المجازفة بالقول، لا يمكن أن تكون كاتباً كبيراً ما لم تكن قارئاً كبيراً. هذه جملة كثيراً ما نسمعها أو نستخدمها، وهي جملة قد تحتمل وجهات النظر. لكن المؤكّد، لا يمكن أن تكون كاتباً ما لم تكن قارئاً في البدء. أقصد كاتباً بمعنى صناعة الكتاب، لا بالمعنى الأثيري الذي يتيح للأطفال أن يكونوا ألمع الشعراء.

* روائي من سورية

المساهمون