كان الفنّ التشكيلي السوري الأكثرَ تجاوباً وتعبيراً عن المكان بوصفه خراباً. يمكن إنشاء نوع من الوحدة في الاستجابة بينه وبين فنّ التصوير الضوئي؛ لكنّ الفنّ يتفوّق على الصورة في القراءة العميقة لما وراء المكان. فمنذ البداية، تمكّن الفنان السوري من أن يواجه الكارثة، إذ كان المكان بوصفه ملجأً أو عشّاً قد أخذ يتهدّم من حوله، وبحركة عفوية على الأرجح، راح الفنّان يتابع الخراب الذي يحدث حوله بأدوات وبأشكال مختلفة: عدسة الكاميرا واللون والغرافيك والورق.
لا يبدو المكان، في لوحات الفنّانين السوريين الذين رسموا الدمار، طللاً، فالأطلال ليست خراباً؛ ليست إلّا مكاناً خالياً من البشر الذين عرفناهم أو أحببناهم، بينما هو في اللوحة السورية يبدو دماراً. وهنا تظهر الفاجعة فقط. فالمكان في اللوحة يخسر قيمته، ووجوده، وقابليّته للترميم. وبينما لا تقدّم الأطلال نفسها بوصفها ما فاتَ أوانُه، تتقدّم الأمكنة المدمَّرة كي تسجّل نفسها في هذه الحقيقة. ولهذا، فإنّ الفنّ الذي استطاع حتى اليوم أن يسجّل لحظة الكارثة ـ عبْر رسم المكان المدمَّر ـ هو الذي سيواجه الزمن.
يبدو الزمن عدوّاً ـ بكلّ ما في الكلمة من معنى ـ للمكان هنا، وإذا ما عدنا إلى الأطلال في القصيدة العربية، فإن المعنى الذي كانت تقدّمه يتضمّن نوعاً من التعبير عن التكرار في الزمن، فالمحبوبة غادرت المكان، وسوف تعود إليه، وكلّ ما في الأمر هو أن الشاعر العاشق قد تأخّر قليلاً في وقت الوصول لأيّ سبب من الأسباب، فتركت حبيبته المكان. لكنّ الزمن غدر به قبل أن يأتي، بينما توحي مقدّمته أن الآتي يمكن أن يُعيد بناء المكان.
لا يرسم الفنان السوري مكاناً مدمَّراً فحسب، بل مكاناً غادر الزمن
أمّا الفنان السوري، فهو يرسم المكان الذي غادر الزمن. لا تتضمّن اللوحات أيّة التفاتة إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، إذ لا يستطيع المشاهد أن يعرف الأمكنة التي تدخل في تكوين اللوحة وتشكّل بناءها. إنها تثبّت الزمن وحسب؛ لوحةٌ عن الحاضر وحده، تقدّمه بوصفه رعباً لا نهائياً أو حطاماً قاصماً لكلّ الاحتمالات الأخرى التي يمكن أن تتسرّب عبر التأويل والتفسير، وتقول للمشاهد: هذا المكان الذي تعرفونه لم يعد مكاناً.
والحقيقة هي أن السوريين حين سيعودون إلى الأمكنة لن يجدوها، أو ستكون مهمّتهم الأولى إزالة ما تبقّى منها. فالحاضر ليس مقبولاً، ولا يريد أحد أن يبحث عن الماضي: المستقبل وحده هو ما ينتظر. فمثل هذا المكان لا يمكن إعادته كما كان في أيّ بناءٍ جديد. وفي هذه الحالة، فإنّ الجرّافات والآلات عموماً هي التي ستقرّر مصيره. الجغرافيا الجديدة ستغيّر الخرائط، وتخلط الملكيات، وتطلب أن يُلغى التاريخ، حين لن تترك منه أيّ شيء.
من الصعب على الرواية أن تفعل مثل ذلك. فالحطام والدمار يحرمان الرواية من أحد أهمّ العناصر التي تشكّل بنيانها، وهو المكان، ولهذا فإن معظم الروايات التي كُتبت حتى اليوم ـ إن لم يكن كلّها ـ تحاشت أن تشتبك مع هذا العنصر الموجود والمفقود في حقيقة الأمر في عموم الخراب السوري.
* روائي من سورية