ما تقوله الرواية

15 أكتوبر 2021
(مقطع من عمل للفنان الإيراني حسين كاظمي)
+ الخط -

يخالف تاريخ قراءة روايتَيْ جورج أورويل "1984" و" مزرعة الحيوانات" رأيَ ميلان كونديرا الذي قال فيه: "إن ما يقوله لنا أورويل كان يمكن أن يقال أيضاً (وربما بشكل أفضل) في مقال أو بحث نقدي". فعدا عن أنّ الروايتين قد تُرجمتا إلى معظم اللغات في العالم، وعدا عن أن أنهما لا تزالان مقروءتين، وتُستخدمان كرمزين للدلالة على الاستبداد وسرقة الثورات، فإن نموذج المستبدّ الذي ابتكره أورويل قد هيمن على العالم منذ الزمن الذي كتب فيه روايته. وهو ما يثبت قدرة النبوءة الروائية على أن تخبرنا بشكل المصير الذي ينتظرنا في حالة الاستسلام لأخ أكبر يراقب ويترصّد ويسيّر حياتنا ليلاً ونهاراً.

كأنّ الحياة الواقعية بدأت تقلّد الرواية، أو تنقل النموذج إليها. فضلاً عن هذا كلّه، فإن العالم قد شهد ــ منذ أن كتب أورويل روايته ــ عشرات الروايات عن النموذج الحاكم نفسه. ذلك أن الطغاة يقدّمون تعديلات لا حصر لها على سلوكهم، تعجز المقالة أو الدراسة عن تتبّعها مثلما تفعل الرواية.

الأمر الآخر الذي يخالف رأي كونديرا هو وجود المئات من الدراسات والكتب والمقالات التي ناقشت وحلّلت ظاهرة "الأخ الأكبر" أو ناقشت طبيعة الاستبداد والمستبدّين (حلّل إريك فروم شخصيتي هتلر وستالين في كتابه "تشريح التدميرية البشرية"، وكتبت حنا آرندت كتاباً مهمّاً عن "التوتاليتارية") ولكنّ كلّ تلك الكتب لم تستطع أن تُزيح الرواية عن مكانتها، أو تكون بديلاً "يمكن أن يقال بشكل أفضل" كما كتب كونديرا.

هل تستطيع المقالة أو الدراسة أن تقول ما قالته الرواية بشكل أفضل؟

تسير عبارة كونديرا في الطريق المعاكس لما ترسّخ عبر تاريخ الرواية من أنّ ما تقوله هو المضمر، أو المستور، أو المسكوت عنه في كثير من مجالات الكتابة. لكنّ المعتاد أن تُعتبر السياسة في الأدب نوعاً من التدخّلات التي تسبّب بطء التلقّي، أو عدمه، أو حرمان الرواية من المتخيّل الأدبي. كان النقد يوَجَّه إلى أولئك الكتّاب الذين ينتمون إلى اتّجاه محدّد في الأدب، وكانت تهمة التقريرية، أو الخطابية هي التي تلاحق كتاباتهم. غير أن كونديرا نفسه يضع السياسة في قلب رواياته، ولا يوجد حدث روائي في معظم تلك الروايات دون أن تكون السياسة جزءاً من مصير الشخصيات، وهذا طبيعي قياساً إلى العوالم التي تعيش فيها تلك الشخصيات.

هل تستطيع المقالة أو الدراسة فعلاً أن تقول ما قالته الرواية بشكل أفضل؟ يخفي التاريخ كثيراً من الحقائق والتفاصيل، لا يأبه بتلك التي تتعلّق بالضمير والوجدان، أو بالحسد والغيرة، أو بالحقد والكراهية. وتتجاهل الدراسات السياسية طبائعَ الأفراد غالباً، بعضها لا يعول على الإرادة، بل يوكّل المصائر للقانون والحتميات. ولم تتمكّن الدراسات النفسية، على الرغم من عمقها وإحاطتها بالصفات المصاحبة للمستبدّ ونظامه (يمكن الإشارة هنا إلى كتاب مصطفى حجازي: "التخلف الاجتماعي") من أن تعوّض شيئاً ممّا يمكن للرواية أن تقدّمه. الرواية وحدها هي التي تستطيع أن "تقول ما لا يقوله التاريخ"، أو السياسة، أو النقد، أو الفلسفة: إنها محيط المحيط في عالم القول والكلمات.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون