لا تتوقّف رواية طارق إمام، "ماكيت القاهرة"، عن إدهاشنا. إنّها تفعل ذلك من السطور الأُولى. العجيب هنا هو المنطلَق، إنّه البدء وما يتلوه وما يُبنى عليه، إنّه لعبة الرواية التي تستطرد فيها، وتُراكم عليها، بحيث تتواصل وتستمر في ذلك شيئاً بعد شيء، وبحيث يخرج من كلّ شيء آخر ضدُّه، أو بعده أو فوقه أو تحته، فالكل قابل أن يتحرّك ويتغيّر، ويتحوّل إلى غيره، أو يختفي من أساسه.
نحن هكذا أمام سحر موصول، أمام عالم متقلّب ومتحوّل وغرائبي، سادر في حراك ومفاجأة وعجيب لا ينفكّ عنه. الرواية هي هذا السحر، وهي هذا التوالد الخارق، وهي هذا الانتقال من غرابة إلى غيرها. لن ننتظر من الرواية أن ترسو على شيء، لن ننتظر منها أن تجد خواتيم ونهايات. هي فقط هذا التناسل العجائبي، الذي لا يتوقّف ولا يزال يباغتنا. إنّها لعبتها، ومبانيها من بعضها بعضاً، ومن انشقاقات وصدمات وتبدلات.
منذ الأسطر الأُولى نلتقي أسماء ليست بأسماء، لأشخاص ليسوا أشخاصاً، إنّهم وأسماؤهم نتيجة هذا الخيال الحرّ والذي بلا حدود. أوريجا الطفل يصوّب إصبعه إلى أبيه لاعباً لعبة المسدس، لكنّ الأصبع يغدو فعلاً هذا المسدس، وتخرج منه رصاصة تردي أباه. نود تعاشر في غرفتها، وعلى مرآتها، شخصاً لا يفارقها وقد اعتادته ولازمته. ثم هناك بلياردو الذي يلاحق عيناً عملاقة. نحن هكذا، من البداية، خارج المألوف والعادي والمنتظم والمتّسق. لقد أفلت الزمام، وسننتظر هذه اللحظة أن تستمرّ المفاجآت، وأن نبني عجيباً على عجيب، وغرابة على غرابة.
نحن هنا لا نستطيع أن نثق في شيء، أو نتوقّف عند شيء
سياق الرواية هي هذا بالتأكيد، لكن هل هذا كلّ الرواية، هل هي فقط هذا التحوّل الغرائبي؟ لن يترك لنا طارق إمام مهلة أن نفكّر على هذا النحو، الرواية تستطرد في ذلك على نحو لا يترك لنا مجالاً لسؤال، أو أسئلة من هذا النوع. إنّ سرعة ومفاجأة الأشياء، تجعلنا نغرق في هذه اللعبة، التي لا تنفكّ تتوالد، لا تنفكّ تذهل وتدهش. لذا يقتضي الأمر وقتاً لنشعر أنّ لهذه اللعبة سياقاً ما، لنكتشف أنّ وراءها، ليس أسئلة وتصوّرات فحسب، بل إنّها أيضاً رؤية وأفكار.
نحن هنا لا نستطيع أن نثق في شيء، أو نتوقّف عند شيء. الأشياء تُضمر أو تحوي أضدادها، الأشياء في لعبتها تلك، في ضجيجها وتوالدها وسرعتها وعجيجها، لا تزال تملك أسرارها ومفارقاتها. إنّ اللعبة تمرّ من سلب إلى سلب، من ضدّ إلى ضدّ. هناك الواقع، أي واقع في خديعة مع الخيال. هناك الأشياء، بما تملكه من الاستعداد للتحوّل والانقلاب. هناك الأشياء أمام خيالها، أمام ظلالها، بل أمام سلبها وعدمها. الأشياء بتلك القابلية لأن تتحوّل، بل لأن تختفي.
الواقع هكذا، إذا جاز أن نسمّيه واقعاً، حاضر أمام سلبه، بل هو حاضر أمام عدمه. مع ذلك فإنّ شيئاً كالأسطورة، بل نقول إن شيئاً كالدين، يخرج من اللعبة. هكذا نجد أنّ الثلاثة الذين بدأت بهم الرواية هم عائلة، أنّ الطفل القاتل هو ابن نو وبلياردو. عائلة، هكذا تضيق اللعبة لتغدو قصراً على عائلة. لكن الأمر لا يقف هنا، هناك إلى جانب الثلاثة، شخص هو المسز. الاسم هو ثانية مباغت. المسز هي التي تشرف على مشروع "ماكيت القاهرة"، الذي لكلّ واحد من الثلاثة نصيب فيه.
كلّ من الثلاثة يصنع ماكيتاً لقسم من القاهرة قد يكون بيته. قد يكون على نحو ما، ذا صلة به. لكن المسز التي تبدو نصف امرأة. عليمة بكل شيء، إنّها تجيب عمّا يخطر لكلّ في سره، تجيب عمّا يسأله بدون أن يقوله. هناك أيضاً منسي عجرم، ولعبة الأسماء هنا بادية، إنّنا أمام تحريف لاسم المغنّية المعروفة نانسي عجرم. منسي عجرم في الرواية صاحب كتاب يخاطب كلّ شخص، بما هو فيه، يخاطبه بلسانه وكلامه، أي أنّ لكلّ شخص خطابه في كتاب منسي عجرم.
هنا لا نخطئ إذا قلنا إنّنا أمام تلميح ديني، لا نخطئ إذا وجدنا في المسز ومنسي عجرم شخصيّتين خارجتين من الدين. المسز ومنسي عجرم هما هنا فوق اللعبة التي تنتهي أو تلمح إلى نهاية، هي زوال الماكيت وزوال القاهرة وزوال اللعبة كلّها، أي أنّ اللعبة هكذا تتحوّل إلى عدم كامل. نحن، وإن كنّا لا نزال في اللعبة، أمام الموت، أمام الوجود كلّه وقد واجه نفيه، أمام الموت يطغى ويبتلع العالم والوجود.
* شاعر وروائي من لبنان