ماذا لو هرب سقراط؟

04 فبراير 2022
"موت سقراط" للتشكيلي الفرنسي جاك لوي دافيد، 1787 (Getty)
+ الخط -

رفض سقراط الهرب من الزنزانة حين دبّر له تلامذته أمر الفرار والتخفّي بعد أن حُكم عليه بالإعدام مسموماً. يبدو أن الخطّة كانت آمنة ومحكمة، غير أن الفيلسوف ظلّ في الزنزانة، ثم تناول السمّ، ومات. هذا ما يذكره التاريخ.

يُشيد المؤرّخ الأميركي ول ديورانت بهذا الموقف، وأظنّ أن كلّ مَن كتب عن سقراط، قد امتدح موقفه. ولكنّني لم أقرأ مرّةً واحدة لأيّ كاتبٍ أو مفكّر تصريحاً أو إقراراً بأنه قد يفعل ما فعله سقراط، ويختار الموت، لا الحياة، في موقفٍ مماثل. كما لم أقرأ لأيّ كاتبٍ أو مفكّر يلوم الرجل على تفضيل الموت، من أجل الفكرة، على الحياة من دونها.

ولكن، ماذا لو فرّ سقراط من الزنزانة؟
الجواب الذي يزوّدنا به التاريخ، والفلسفة، والحكاية أيضاً، هو: أننا كنّا خسرنا سقراط. فلا الدرس كان يُمكن أن ينتقل من جيلٍ إلى آخر، ولا كان بوسْع أفلاطون أن يكتب محاوراته، والأهمّ من هذا وذاك، في رأيي، أننا كنا خسرنا الحكاية، أو خسرنا الموقف الدرامي. فهل كان سقراط يعرف ذلك؟

ثمة مَن يقول إن حكمة الرجل الواسعة جعلته يُدرك أن فلسفته كلّها، وموقفه في الحياة، مرهونان بهذه الخطوة التي وضعته أمام أحد خيارين: الأوّل هو أنه يمكن أن ينجو ويعيش، فتموت فلسفته ومواقفه، وينساه التاريخ؛ والثاني هو أنه يمكن أن يموت بينما تحيا فلسفته وذكراه. والمعروف أن الفيلسوف فضّل الحكاية على الحياة.

الحكاية هي التي تُبقي البطل في ذاكرة الإنسانية بوصفه قرباناً

لا يعرف التاريخ غير قِلّة من البشر ممّن فعلوا مثل ذلك، أي اختاروا أن يعيشوا في الحكاية، بينما هُم يموتون في الواقع. وعدا سقراط، فإن التاريخ يحفظ كثيراً من الأسماء التي راهنت على قضيّةٍ مماثلة وفازت بها بحسب هذا التصوّر المسبَق والمحكَم لسير الحكاية في الواقع: يرتقي جيوردانو برونو وغيلان الدمشقي والحلّاج إلى المرتبة السقراطية نفسها، وتكمن التراجيديا في موقف كلٍّ منهم من قضيّة تتعلّق بفكرته عن نفسه، لا عن أفكاره وحسب.

يحوز البطل على التمجيد في التاريخ، والمسألة اللافتة أن العديد من الشهادات لم يكن لها مِن هدف سوى أن تقدّم الفكرة على الإنسان. وفي العصر الحديث، اعتادت الأحزاب التي تمجّد التضحية ــ من اليسار واليمين، أو من الأحزاب الدينية، وخاصّةً في الثقافة العربية ــ على تفخيم الفكرة وتحويل الإنسان إلى منفّذ أو إلى ضحية. يتساوى في ذلك الوطن، والمبدأ، والحزب، والدين، والطائفة أحياناً.

ولكنّ الحكايات والروايات ظلّت طوال التاريخ حائرةً في شأن المُفاضلة بين أمرين: مَن الذي أحيا هؤلاء بعد موتهم؟ حكايتُهم أم أفكارُهم؟ من حيث الظاهر، تبدو الفكرة هي المقدّسة، وهي التي يُضحّي البشر من أجلها. غير أنّ الحكاية هي التي تمنح البطل شرف البقاء في ذاكرة الإنسانية بوصفه قرباناً، بينما قد تتلاشى أفكاره وتختفي، وتحلّ محلَّها أفكارٌ أخرى مختلفة وربّما نقيضة. فالقليل من الناس يَعرفون شيئاً، ولو قليلاً، عن أفكار سقراط أو الحلّاج أو برونو، والكثير منهم يعرفون الإنسان.

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون