لهذا يظنّ الناس أنني من قصب

20 ديسمبر 2021
سعاد العطّار، العراق، 1996 (جزء من عمل)
+ الخط -

1

ألمَحُ المرارةَ
كَيفَ تستولي على شفاهكِ بلا مقاومة
ألمَحُ المفاجآت
كيفَ غَيَّرت طُرقكِ كلّها
فبتِّ غريبةً
ألمَحُ التيهَ الشائك يحاوطكِ 
فلا تعرفين كيف تعبرينه. 

كُلُّهم جاؤوا وباركوا الموسمَ
كُلُّهم ودّعوهُ
وكُلُّهم سيقولون حين تَصِلينَ متأخِّرةً:
لقد فاتكِ الكثير من التّينِ
يا سيّدة السِّلالِ الفارغة.


2

يخترقُني نهرٌ لا أعرِفُ منبعه
تعيشُ في صدري أشجارٌ
لا أعرِفُ مَنْ بَذَرَها
تتسلَّقُ ضلوعي نباتاتٌ وطحالبُ
وفي وجهي تُسافر حماماتٌ وغيوم.

يقول الشيخ:
في داخِلِكَ تَسكنُ أرواحُ الغابةِ.

يقول الطبيب:
في حياةٍ ما، كنتَ رجلًا يعيش هناك.

نسيتُ أيضاً، في قلبي غزالةً تركض،
أظنُّها الضِّباعُ التي تُلاحقني.


3

فجأةً
تَحرَّك الغُصن
فاقشعرّت الوحدةُ على جِلدي.

قلتُ لرُبَّما اتَّكَأتْ عليه رياحٌ مسافرة
رياحٌ تَرَكَت خَلْفَها الطواحين في إنكلترا
وهَجَرتْ مَزهَريّات النوافذ في برلين
ولم تُطِلْ مُكوثَها في باحة المسجد الأقصى.

هل فيكِ شيءٌ من ضريحِ عليٍّ ـ سألتُ ـ
هل حَرَّكتِ خُصلَةً من شعر شهرزاد
هل أعجبتْكِ حديقتي
أم إنني محطّةٌ
وأنت على سفر؟

فجأةً تَحَرَّكَ الغُصن.

ربما أكملتْ طريقها إلى حديقةٍ أخرى ـ أقولُ ـ
سَتُصادِفُ رَجُلاً
بينما تحطُّ حقائبها على غُصنِه
سيسألُها ذات السؤال
ولكنْ إلى جانبه ستكون امرأة.


4

ما زلتُ كلَّما سَمِعتُ ناياً في الجِّوار
تفقّدتُ حنجرتي
وكلّما أبصرتُ امرأةً تُسلّي عَتَبَة بابها بالماء
تَصعَدُ في عروقي اللهفةُ إليه، وكأنَّه مِنّي.

يعرفني الفجرُ عندما يستيقظُ مثل طفلٍ صغير
فيستلقي على كتفي
تعرفني الشمس أيضاً، أقودها كلَّ غروبٍ إلى بيتها متعبةً
على يديَّ كبرت الـ"آه، يا ولي"، وصارت لها عائلةٌ من المواويل
وعلى مقربةٍ منّي، شاختِ الأغنياتُ، وهُجرت
وكلَّما هبّتْ الريحُ تمايلتْ.

لهذا يظنّ الناس دائماً
أنني من قصب.


5

في الليل كانت تمرُّ السُّعلاة
قادمةً من مَغارَتِها في حكايةٍ بعيدة،
في الجبهة كان أبي
يسمع خطواتها في الحوش
ومن بعيد
يسوّر البيت بآية الكُرسيّ.

على الكُرسيِّ
كانت تستريح السُّعلاة
وكنّا نهرب منها إلى المغارات الآمنة في ثوبِ أُمّي،
خلف شجرة "دلّول"
في أعالي أغصان النومة السابعة.

في الليل
كانت ترحل السُعلاة
ويظلّ خيالها يَلُوحُ من خلف الستارة
لأمِّي التي تحرسنا
وحيدة.


6

على صخرةٍ في مكانٍ لم تَطَأْهُ الأقدامُ بعْدُ
بنيتُ بيتاً
من شُرفتهِ تَلمح انحناءةَ الأرض البعيدة
ومن بابهِ الخلفيّ
تُشرِفُ على هِجرة النهر، إذ يُمازح صمتَ المكان،
وتلويحةَ الغابةِ، إذ تُمارسُ عادتها مع الريح المهاجِرة.

رَشَشْتُ عَتَبته لأنّي لم أتخلَّ عن عادتي
رغم أنَّ لا أحدَ سَيَعبُرُ فيشمّ رائحة التراب.

زَيّنتُ الباب بالريحان
رغم أنَّ لا أحد سيطرقه.

على الطاولةِ في الحديقةِ
تركتُ الكوب يصّاعد منه البُخار
ليصير غيمةً من القهوة في الأعلى
وكِتاباً يشرحُ كيف تعتني بجدرانِ البيتِ
حينما تكون من المدى،
والسقف، حينما يكونُ مطرّزاً بالنجومِ البعيدة.

لي بيتٌ بنيتُه هناك
ولا مفاتيح تُثبتُ ذلك
إنني أمتلكه فحسب
وهذا ما أردت قوله من البداية.


* شاعر من العراق

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون