لمن تُقرع الأجراس؟

23 يوليو 2021
(مقطع من عمل للفنان ماكس موريلّي)
+ الخط -

في عام 1940 كتب همنغواي روايته عن الحرب الأهلية الإسبانية : "لِمَن تُقرَع الأجراس"؛ تلك هي الرواية المبكرة عن الحرب التي شارك فيها إلى جانب الجمهوريين. أخذ الروائي لحظةً واحدة من الحرب، يروي فيها عن تلك الأيام التي يستعدّ فيها روبرت جوردان، الشخصية الرئيسية في الرواية، لتفجير أحد الجسور تمهيداً لهجوم الجمهوريين على الفاشيين. لكنّ تلك الأيام تشهد استعادة لزمن الحرب كلّه عبر منولوغات حيّة لمعظم الشخصيات المشاركة في صناعة الحدث أو الرواية، يسجّل بعضها أشكال العنف الفظيعة التي مارستها القوّات الفاشية ضدّ الجمهوريين وضدّ كلّ مَن وقف إلى جانب قضية الحرية.

غير أن الضمير اليقظ الحيّ للروائي، والحسّ الأخلاقي الرفيع، جعلاه يرفض أن يخون الحقيقة؛ فإذا كان قد انحاز إلى جانب الجمهوريين في معركتهم ضدّ الفاشية، فقد رأى أن رفاق الطريق قد مارسوا عُنفاً وصل ــ كما في المشهد الذي تسرده بيلار أمام روبرت جوردان ــ إلى حدودٍ غير معقولة، ضدّ الفاشيين الذين وقعوا في أسر القوات الجمهورية، أو أنصارها.

قامت الثورة الفرنسية على العنف، وكذلك أمر ثورة أكتوبر في روسيا، وكلّ الثورات التي هبّت في الشرق والغرب، ومن النادر أن تكون ثورة قد تحقّقت، أي انتصرت، دون أن يمارس منتسبوها العنف ضدّ أعدائهم. وفي العقود الماضية، كان بوسع اليساري أن يتحدّث عن العنف "الثوري" وهو يؤيّد حروب الثوّار ضدّ الأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية، وكان غيفارا أكثر ممثّليه حضوراً في العالم.

تعرف ذاكرة التاريخ أنّ آلاف القضايا لم تُحلّ إلّا بالعنف

ثمّة العشرات من الكتب التي تُرجمت إلى العربية لتثبيت المصطلح، أو لشرحه والدفاع عنه، والدعوة لإقامة مشاريع ثورية مماثلة تستهدف العدوّ. ربما كان وجود إسرائيل قد خفّف إلى حدٍّ بعيد من الرغبة في خوض الحروب ضدّ الأنظمة العربية. وربما كان اليسار قد انفرد وحده بالتنظير للعنف حين كان بوسع صِفة "الثوري" أن تُنقذه من أيّ إحراجٍ دمويّ يمكن أن ينجم عن تلك الدعوات.

في السنوات العشر الماضية، بدت كلمة العنف أكثر المفردات المُدانة والمكروهة في الواقع العربي، بينما مُورِس العنف بأكثر أشكاله وحشية. ولم يتردّد المتحاربون في التنكيل بخصومهم ــ وهم أعداؤهم ــ بكلّ قوة. وتمّ تقديم العنف على شاشات التلفزيون، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، على أنه الحل الوحيد المتاح لحلّ المشاكل الطارئة. وبينما كان دأب الجميع إدانة العنف، فقد بدا الأمر كوميدياً فاجعاً: فكلّ عنفٍ مضادٍّ وحشيٌّ ومدانٌ إنسانياً وأخلاقياً، وكلّ عنفٍّ صديقٍ مشروعٌ وخيِّر.

ليس لدينا في الثقافة العربية، حتى اليوم، ما يمكن أن يُسمّى "ثقافة السلم". ولعلّ التسميات أو الصفات التي يُلحقها بعض السياسيين، والمثقّفين، بالعنف الثوري أو المشروع مجرّدُ تحلية للتملُّص من المسؤوليات الأخلاقية التي تترتّب على ممارسة العنف من قبل مؤيديهم ضدّ الطرف الآخر.

تعرف ذاكرة التاريخ أن آلاف القضايا لم تُحَلّ إلّا بالعنف، وتعرف ذاكرته أيضاً أن العنف آلة تفريخ قاتلة لا تولّد إلّا نفسها. صحيحٌ أنه من الصعب أن تنجح طريقة غاندي دائماً، ولكنْ ليس من الصعب أن نقرع الأجراس تأييداً لها، فيما لو أردنا السلام للبشرية.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون