ما أثارني في الشعور الذي أغرقني لدى علمي باغتيال لقمان سليم هو ما فيه من جانب شخصي. لم يقف إحساسي عند ما في الأمر من عموم، كالاحتجاج والتنديد. كان فيه ما مسّني في صميمي ولاح فوراً كخسارة خاصّة. لم أكن أنتظر ذلك، فعلاقتي بلقمان، ولا أعرف كيف أسمّيها، لم تكن في يوم تحتَ هذا السؤال. آخر عهدي بلقمان لقاءٌ في مقهى كنت فيه مع صديقة. انتبهت، حين وقف مع زوجته وأنا واقف مع صديقتي وأربعتنا نتهيّأ في الوقت ذاته للخروج، إلى أنّه كان على الطاولة التي تلي. أسعدني هذا اللقاء الذي سرعان ما انطوى حين غبنا جميعاً في الليل.
لم يكن عهدي بلقمان قريباً. كان يرجع إلى ثلاثين عاماً على الأقل، حين نجَمَ لقمان فجأةً في حياتنا. علِمنا أنّه عاد من فرنسا حيث أمضى وقتاً كانت تفاصيله، التي وصلتْ كسَرٌ منها، تدلّ على أنّه كان هناك يستهلّ ما استمر به في لبنان. لقد عاد من هناك مكتملاً، وبالتأكيد لم يكن ذلك بحكم العادة، فكل شيء دلّ على أن لقمان لم يكن عادياً في يوم. كانت له، في كلّ أمر، رؤيته الخاصة وسلوكه الخاص. كان يبتكر لنفسه ولغيره في كلّ شيء، ويجد استثناءً وخصوصيّة في شتى الأمور. بدأ هذا وهو بعد على مقاعد الدرس واستمرّ في فرنسا، وحين عاد إلى لبنان كانت مغامرته لا تزال في وسطها، فساقها إلى مخارج ومنافذ كانت تتفتح له في كل حين.
كان منذ عودته لاعباً لا نستطيع أن نلحقه، وبدا أنّ كل ما يصنعه ويباشره فنٌ قبل كل شيء، يصنعه بحذق الفنان ولعبه. بدا في أوّل الأمر شريكاً لنا، نحن الكتّاب والشعراء؛ لم نشك في هذه الشراكة رغم أن لقمان لم يحترف الكتابة ولم يعالج الشعر. لم يكن ذلك لينتقص من شراكته، ولا كان هناك سؤال عن نتاجه الكتابيّ، إذ كان لقمان لا يحتاج لأمثلةٍ من نتاجه ليُعَدّ كاتباً. كان لديه كلّ ما ينبغي أن يكون لدى الكاتب، بل كان كاتباً حين يقرأ وشريكاً في ما يقرأه من نتاجنا وفي ما يستوقفه منه ويلاحظه عليه. كانت لديه لغة الكاتب ورؤيا الكاتب وإنْ حينَ لا يكتب. كان كاتباً لا يحتاج إلى مؤلَّف، بل هو حين قرّر بسرعة أن يؤسس "دار الجديد"، بدت هذه الدار من حين تأسيسها وكأنّها مصنع كتّاب، بل بدت، على هذا النحو، شريكةً في ما تنشره.
كان لقمان هذه القامة التي لا تنحدّ بموضوع أو مشروع واحد
بدا النشر فيها، من أوّل بدوِها، جائزةً واعترافاً. كنّا نحن، من حول لقمان ومنه حول "دار الجديد"، شركاء في هذه الدار، بل نوعاً من تيّار حولها. لم يسأل أحدٌ ماذا يكتب لقمان، أو لماذا لا يُمعن في الكتابة، فالقليل الذي يكتبه كان، من دون شكّ، مقبولاً ولائقاً. لكن لم يجادل أحدٌ في هذا الأمر، لأنّ لقمان بدا لنا منذ تلك الساعة أكثر من كاتب، بل بدا وكأنّ دار النشر والكتابة نفسها لا يكفيانه ولا يختصرانه، فهما مَطَلٌّ على أمور أخرى، تنكشّف كلّ فترة عن جديد. كان لقمان هذه القامة التي لا تنحدّ بموضوع ولا بمشروع واحد. وفي حين جعل لقمان من كل صغيرة في "دار الجديد" - من العناوين والطباعة والخط والغلاف - قضيّةً، لم يلبث أن سلّم الدار إلى شقيقته رشا وانصرف الى التوثيق والأفلام.
وبالتأكيد، لم تكن السياسة جديدةً عليه، بل بدا حين زاوَلَها وكأنّه يُتِمُّ شيئاً صنَعه فيها. بدا وكأنّه ما سبَقَها من قبل، حتى فترته السوريالية الفرنسية، يقدّم لها ويُضمرها ويستدخلها. مع ذلك كانت السياسة أيضاً فنّه. لم يتصل فيها بحزب أو فريق أو معسكَر. كان وحده فيها، وهنا أيضاً كانت الخصوصيّة والتفرّد، والأصالة، بكلمةٍ، وجهتَه. هنا أيضاً كان يستكمل مغامرته ويبتكر، فمِنْ وراء هذه الممارسة كان الكاتبَ غير المنظور والشاعرَ غير المنظور والفصيحَ على الدوام؛ كان هؤلاء، وأبعد منهم، كامنين في حِراكه الظاهر والمعلَن.
عندما بدأت انتفاضة 17 تشرين الأوّل، راجت تسمية "ناشط سياسي"، التي لم يكن لها سابقةٌ من قبل. كانت هذه تسميةً تُشير إلى مناضلين من خارج الأحزاب والطوائف، وبالطبع أُطلقت هذه التسمية على لقمان وبدا أنها اختصرته. وحين اغتيل عادت التسمية تحصره، فهو كان هذه المرّة ناشطاً سياسياً فحسب. أنا الذي أعرف لقمان منذ عاد إلى لبنان، أعرف أنّ هذه التسمية لا تكفيه، حين أتذكّر أنّ هذا الفتى العائد من فرنسا فاجَأنا برؤيةٍ للّغة من خارج الجدال القائم آنذاك، رؤية ألزمتنا بالعودة إلى اللغة في حين نسعى إلى تقويمها والخروج عليها. هذه المصالحة، بل هذا الازدواج أغريا كثيرين منّا وجذبا كثيرين.
كان لقمان يقرأنا بهذه النظرة ويقرأ غيرنا، ولعلّ هذه القراءة كانت النقد غير المنظور للرجل الذي كان، بالدرجة نفسها، مفكّراً غير منظور وأديباً غير منظور. ومن المُمضّ أنّنا، في اعتباره ناشطاً سياسياً فحسب، قد نجازف أيضاً بتحويله إلى سياسي غير منظور.
منذ ثلاثين سنة نشر لي لقمان "خلاء هذا القدح" و"حُجُرات". وأظنّ جازماً أنّ نشْره لهما، بل وقراءته لهما، كانا أثمن نقد تلقياه.
* شاعر وروائي من لبنان