هنا ينتهي الفصل الأول من الضياع. هلعٌ كلُّ هذا النثر والهذر. هلعٌ ألمّ باللغة وبالكلمات. لم يعد للسان مُرتكزاً، وضياع الصوت هذا يحتمّ عليّ الهزيمة يوماً بعد يوم. فكيف للصوت أن يعود إلى قالبه الأول؟ أيقتل المرء نفسه صارخاً؟ ماذا؟ حنين إلى البدايات؟ ومن أين تأتي الكتابة؟ من أين للصمت أن يخيّم على المكان؟ لغتان، والقلم طرف الخيط الذي تراه عيناي ولا تمسك به يدي. لغتان: مرّة هذه الإنكليزية، منفاي، ولغة عربية أعود إليها الآن لأجدها كذلك منفاي الأوّلَ. أليس الشعر منفى اللغة عن القول؟ أليس اللسان، كما الجسد، طريداً في منفى المكان، يبحث لنفسه عن الشكل؟ أليس في النفي بعدٌ عن الحقائق ونكرانٌ لها لأنه الأمل في لقاء التجربة؟
أُعدّ العدّة للكتابة، أُنصت كثيراً لأسمع أحياناً صمتاً خافتاً يأتي من مكان ينأى ويبتعد. أسمع صمت الأمّ في اللغة، فتفلت الكلمات منّي كما ينتفض الغبار من الشيء. تلك اللغة ـ المادّة، تلك اللغة ـ الصمت كما يقول جورج ستاينر.
تتراكم ذرّات الصمت هذه هنا وهناك. أجمُعها ذرّةً ذرّةً. أسترجع بها هزائمي مع العربية، لغتي التي لا أقوى عليها الآن. لأنّي لو قويتُ عليها لرددتُها ــ كما قالها الأوائل ــ قالباً قالباً. وأنا الذي لا أجيد ترديد الأقوال، بل أردّد الأصوات التي حضنتْني، أردّد أصواتهم علّني ألتقط بعضاً من أصداء صمتهم، ثم أودّعهم عندما يحين وقت الكتابة.
■ ■ ■
لم تكن هذه اللغة يوماً لي. لم أملكها قطّ. خاصمتُ الوطن صغيراً واتّجهتُ الى البعيد. لم تكن اللغة بالنسبة إليّ الأقوال. لم تكن ما يتّفق عليه الناس ويردّدونه محدّثين. كنت أظنّ أن الكلمات مكانُ اللغة ولم أنتبه يوماً إلى صمتها. وعندما كنّا في بيروت ذات صيف كانت زوجتي هدى في حوار مع الشاعر أدونيس. فجاءت يوماً وحدّثتني عمّا قاله حين سألتْه، وربما كانت تفكّر فيّ:
- هل حاولتَ الكتابة بلغة غير العربية؟
- لا. العربية بمثابة الأم لي، وكلُّ اللغات الأُخرى بالنسبة إليّ آباء.
■ ■ ■
كيف يبحث الشاعر عن أمّه في اللغة؟ وكيف يجدها بعد كلّ هذا البحث؟ أمِن هنا تأتي العبارة: "اللغة الأم"؟ فكّرتُ في ما قاله أدونيس عن اللغة العربية. كيف يورثنا الآباء لغتهم وكيف يظلّ الشاعر يجهد للعودة إلى مهد الكلام، إلى أمّه اللغة؟
أسترجع هزائمي مع العربية، لغتي التي لا أقوى عليها الآن
■ ■ ■
كنتُ في بيروت. ذلك الحرّ. وذلك البُعد عن القريب، عن الوطن فلسطين الذي يتراءى في الأفق دون عودة. كنتُ على مرأى من المكان الأوّل دون أن أراه. ولم يتبقّ من الزيارة سوى أسبوع وبضعة أيام. قلتُ لنفسي سأكتب بالعربية هنا في تلك المساحة الضيّقة من الوقت. سأكتب ما سأكتبه من الأم. قريباً من البعيد. أنا هنا واللغة الأم. تلك العربية هنا أيضاً، ليست بين الكتب أو في المكتبات. هي هنا على الوجوه الشاحبة، على آفاق من الملل الممزوج بالقلق. في هذا المكان. في هذا البلد لبنان. بضعة أيام لأسترجع فيها اللغة الأم. بضعة أيام في مكان لا أطلال لي فيه. بضعة أيام.. والزمان يضيق مُطبِقاً على الاحتمال.
■ ■ ■
في المنفى بقيتْ لغتي العربية لغةَ أبي. صوتٌ واحد.. صوتٌ واحد.
■ ■ ■
ترحّلتُ وتساءلت عن ضياع اللغة هذا. أين أجدها وكلّ ما أعرفه منها ذلك الصوت الواحد. هل كتبتُ بلغة المنفى لأجد شيئاً مِن الأمّ في ركام المعاني؟ هل يجد المرء أمّه في منفى اللغة؟ في الشعر؟ في صمت الكلمات؟ لم يبق لي إلّا السؤال وكل الأجوبة تبقى معلّقة مؤجّلة؟ تلك هي لغتي، تلك هي أمّي، وهذه كلّ قصائدها: صمتٌ يحثّ على التساؤل وأسئلة لا تقبل الإجابات.
■ ■ ■
هل كانت لغة المنفى زاداً لي؟ هل زوّدتني بشيء ينقصني؟ أم هل زادت من وحشتي؟ هكذا نَفيتُ اللسان عن عربيته. هكذا بقيتْ الكلمات معلّقة في الحنجرة. هكذا هو الشعر.
■ ■ ■
ليس للآباء سوى هوس المثال. "احفظْ القول كما قيل". "ردّدْ ورتّلْ". "احفظ اللغة في قالبها الأوّل". لا مكان للتعجُّب. لا وقت للإفراط. لأنّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه انقطع من ذات نفسه. وأنا انتهيتُ ها هنا، تحت هذا السيف مثلاً صامتاً، أردّد الأمثال.
قبل المنفى لم أصدَ إلى الصوت بل إلى المعنى. كان المعنى، كما هو المثل، كلّ شيء. ومعنى الأصوات نهايتها والشعر تفادٍ للنهايات وبحثٌ عن الفجوات في اللغة، الفجوات التي لم تستقر المعاني فيها بعد.
أمّا المعاني المستقرّة فطرق مسدودة. نهايات مظلّلة. في بحثنا عن المعنى نختصر الكلام، نبتذله كالأغطية التي تُبدَّل يوماً بعد يوم على طاولة المعتاد.
هكذا نخفي القِصَر في التعبير. نختصر اللغة في العبرة. مثلاً، نختصر الوقت في معنى، في نهاية، وفي طريق مسدود، لا يفتح للغة الأفق.
أعود الى اللغة الأم. أعود إلى مقولة أمّي التي لا تنبري، لا تُملّ: "ما من غريب سوى هذا الشيطان". ولا رفيق للشاعر سوى شيطانه. الشاعر وشيطانه معاً يهدمان الأقوال الجامدة ليعودا إلى الصوت، إلى اللغة خارج البيت القديم فيبنيان بيتاً جديداً، بيتاً للبوح.
كنت أظنّ أن الكلمات مكان اللغة ولم أنتبه يوماً إلى صمتها
■ ■ ■
لا ينبّئ يا أبا تمام هذا الربيع القاصر بما هو جديد. العيون كلُّها تعلّقت بالأوطان. ذلك الحنين المبتذل والتعلّق بالذات وبالتعريفات. فيه تبقى الصفحات مسافات فارغة.
الحنين ليس الطريق الى الشعر. لم يقف الأوائل على أطلالهم أملاً في العودة. كان الوقوف نهاية الحنين، كان تخلّياً عن الأمل في الوصول. لأنّ الحنين زاوية ضيقة تأسر الشعر في دائرة التفسيرات. وتحت هذه المظلّة لا يبتل الجسد بالتجربة ويظل الشعر أوصافاً تنفر باللغة عن الشعر.
وهذا ما يطغى على الكتابة بغير اللغة الأم: تفسير المكان الأول للذات وللآخرين.
وكتابة الشعر حقيقة تتخيّل الحقيقة. تقع فيها الخطوات على أماكن لم تقع عليها فعلاً تلك الخطوات، أساس الكتابة الشعرية محاصرة الحنين وتفجير الاحتمال في اللغة، كونها هي التجربة لا الأداة لتفسير التجربة. لأن اللغة دائماً، عندما يتحقّق فيها الشعر، لغةٌ أمٌّ، دائماً في المهد تبدأ من جديد. تبعث الصوت الى الأقاصي.
■ ■ ■
ليس المكان ما يسعى إليه الشعر. وهل يسعى الشعر إلى شيء؟ إن سعى إلى شيء، يسعى إلى إعادة خلق المكان والزمان داخل اللغة، يسعى إلى وقع الكلمات في المكان وفي الزمان.
كلمات كنت أسدّدها عربية فلا تصيب في قلب الأشياء. لا تصيب أبداً لأنْ لم يكن لها وقع. وإذا لم يكن للشيء وقع ضاع هكذا في الهباء.
كانت كلُّ الأصوات في أذنيّ جاهزة خائرة. لم تلهمني الغربة إلا البحث عن الأصداء، والأصداء تحوّر الأشياء وتشوّهها.
أين هو الصمت - الشعر؟
لاقاني الصمت مرّةً في لغة مكان آخر ولم أعرف حينها أنّ ذلك الصمت هو صمت الأم اللغة. ولم أعهد اللغة غربةً كما وجدتها هنا. ها أنا ذا أطلق الأحكام كما يفعل الشعراء وأقول إن الشعرَ هو اللقاء مع الغربة.
هنا تعدَّدَت بي الأماكن وأصبحت الوحشة صحبتي. كلّ صباح أبحث عن بضع كلمات أواسي بها نفسي ولا أجدها. نعم لا أجدها في الأمكنة وربما سأظل أبحث عنها ولن أجدها أبداً، إذ لا مكان لها في الذاكرة بعد هذا الضياع.
■ ■ ■
هل سأجد الأم في اللغة، في أي لغة؟ لم أجد الأم في العربية. لم أجدها لأن لسان الآباء هذا كان صوتاً عالياً عليّ.
هذه هي وجهتي: في لسان لغة ثانية يبحث فيها المرء عن أمّه، ربما لن يجدها، بل قل حتماً لن يجدها. لكنه ربما في هذا البحث يوماً، ربما، يقع على نفسه.
معنى الأصوات نهايتها والشعر تفادٍ للنهايات وبحثٌ عن الفجوات في اللغة
■ ■ ■
قد قالها أحد الشعراء من قبل: "لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده/ فلم يبقَ إلّا صورةُ اللحمِ والدمِ".
نعم في غربة الشعر لم يبق إلا اللسان. في غربة الشعر تشققت الصورة لحماُ ودماً.
صرت أُسدّد أصواتاً غريبة بلسان أبلته الأماكن. صرتُ أسدّدها لتصيب كل شيء. عسى أنْ تصيب يوماً ما أريدُ أو ما سيُرديني.
وهنا، ما زلت أخجل من العربية، أمّي، ما زلت أخجل من الخسارة.
أخرطش هنا وهناك عسى أن يكون لهذه الصفحات خجلها أيضاً، وأنا الذي كنت أحفظ الكلمات الأليفة. ها أنا الآن أسوق كلمات دخيلة، كلمات اجتاحتني وحفرت في جسدي جراحاً خفية، لا تراها عيناي ولا عيون الآخرين.
أبحث عن نفس وهنت وهوت وأقول: أرفقْ بي أيها اللسان عساك تكون جزءاً منّي لا صوتاً عالياً عليّ.
بطاقة
شاعر وأكاديمي فلسطيني من مواليد مدينة بيت لحم، مقيم في فيلاديلفيا بالولايات المتّحدة الأميركية منذ نحو عقدين، حيث يدرّس الكتابة الإبداعية في "جامعة بنسلفانيا". يكتب الشعر باللغة الإنكليزية، التي صدرت له فيها مجموعة شعرية عام 2019، بعنوان "إنكليزية مُرّة"، عن "منشورات جامعة شيكاغو". حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من "جامعة إنديانا"، وقبلها على درجة الماجستير في الشعر من "هنتر كوليج".