لا وداع إذن للشهداء

20 ابريل 2024
فلسطينيون أمام منازلهم المدمّرة في مخيّم المغازي بقطاع غزة، 15 نيسان/ إبريل 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ظل الإبادة، تعرضت العائلات لفقدان أحبائها دون إمكانية للوداع، حيث دُفن الأقارب في أماكن مؤقتة وغير معتادة، مثل جدار الحدود أو تحت شجرة، في ظروف قاسية تشمل النقص في الدواء والتعرض للبرد.
- البيوت، التي تمثل أكثر من مجرد مأوى، تعرضت للدمار والحرق، مما أدى إلى فقدان الذكريات والمقتنيات الثمينة مثل الكتب، وتحولت إلى ركام، مما يعكس الخسارة الثقافية والشخصية للسكان.
- النص يعكس الأمل في العودة وإعادة البناء، معتبراً البيت رمزاً للمقاومة، الأمل، والصمود في وجه الصعاب، ويبرز الإيمان بالعودة إلى الديار الأصلية كهدف أعلى، معتمداً على الصمود والمقاومة لتحقيق هذا الحلم.

في هذه الإبادة، لم يتمكَّن أحدٌ ممّن أعرف أو لا أعرف، من توديع حبيبٍ له ارتقى. فما أكثر الشهداء، بينما المقابرُ كلّها خرجت عن الخدمة.

خالي حسّان مات من البرد ونقْص الدواء، هو كبير القوم، وكان شهد نكبتين في عُمر واحد، فدفنوه على جدار الحدود مع مصر. على الجدار تماماً، حيث لا تبعد خيمتهم عنه سوى أمتار. أُختاي رُشدية وكوثر وُضع جثماناهما في رُقعتين من التراب، على ما تيسَّر. واحدة في جباليا تحت شجرة، والثانية في دير البلح بجوار عَراءٍ ما كان إسفلتاً. (مع أنها تسكن المغازي، وكانت نزحت إلى خانيونس ورفح من قبل). لا شاهدة ولا حتى كتابة على القبرين. ناهيك عن عشرات ما زالوا تحت رُكام بيوتهم، منذ شهور. ابن أُختي نبيل وعشرة أشخاص من أولاده وبناته وأحفاده، كذلك، ابنُ عمّي حاتم فريد وعائلته كلّها، وهلمّ جرّا.

لا وداع إذن للشهداء. لكنّ هنالك وداعاً آخر مُمكناً: وداع البيوت.

لمّا خرجَتْ بنتاي ميّ ومايا بأطفالهما من عتبة البيت، نازحتَين نحو مدرسة "الستّ سهام"، قبالة "مستشفى ناصر" بخانيونس، وبعد ذلك نحو خِيام رفح، في منطقة شمال شرق المدينة، وفي غربها قريباً من مواصي البحر، اتّصلتُ بهما ورجوتُهما: عُودا وودِّعا البيت، وخُذا له عدّة صُور، قبل أن يموت، وأرسلاها لي، فكم أنا مُشتاق لأراه في آخر نظرة.

حتى تتحقّق العودة العادلة والمشروعة: كلٌّ إلى مدينته أو قريته

لم يسمح الوضع العسكري لهما بالعودة. وفي ما بعد عرفتُ أن بعض فِتيان الجيران الباقين، أخذُوا الكثير من الكتب للخبيز والطبخ، فانبسطت والله. إنما لم تمرَّ ثلاثة أسابيع إلّا وعرفتُ أنّ جيش العدوّ تَمركَز في البيت، وحرَق المكتبة (حوالي 12 ألف كتاب)، ثمّ لمّا خرج من المكان، سوّاه بالأرض، كما هو حال جميع بيوت الشارع.

وها هو البيت راح، وليس في الجراب إلّا القليل من الصور، في جوّالات الأولاد والبنات والحفيدات، لا عندي. لقد وصلني فقط مقطع فيديو وجيز، بعد الهدم. تُرى: ما هو البيت في الوعي الفلسطيني بعد النكبة؟ إنه مكانُ اللجوء. مكانُ المقاومة. مكانُ الرِّزق. مكانُ الألَم والأمل. مكانُ الصُّمود وكتابة الشعر. مكانٌ مليء بالذكريات والتطلُّعات. مكانُ اللحظات والأحاديث وأحلام اليقظة. مكانُ النضال، وجيل يُسلِّم الرَّاية لمَن يليه.

مكانُ الجماعة. مكانٌ تُؤوي فيه عابر السبيل، عندما لا يكون له مكان، تحت شمس الله. مكانٌ للحياة والموت. مكانٌ يسترُ نفقاً،  لخيرة أبناء شعبك، هنا أو هناك. مكانٌ لكُلّ ما هو أليف ومعهود وحميمي. وقبل كلّ شيء، فإنّ البيت في وعي الأجيال، هو مكانٌ للإقامة المؤقّتة، ولو طالت دهوراً، فنحن هُنا باقون للأبد، بفضل أبطال مقاومتنا، حتى يدور الأفقُ المائل، وتتحقّق العودة العادلة والمشروعة: كلٌّ إلى مدينته أو قريته.

اللهمّ عَوَضُنا عليكَ يا كريم، فهيِّئ لنا خيمةً ولو على الأنقاض، إلى أن يتحقّق الهدف الأعلى ونعود إلى "نِجِد"، ماسحين عنها وسَخ اسمِها العبري: "سيدروت".


* شاعر فلسطيني مُقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون