لا تكتب؛ سَوِّق!

25 مايو 2023
جزء من "كوميديا" للفنان السويسري بول كلي
+ الخط -

من مشاهدات عديدة، خلصتُ إلى المطلوب من الكاتب كي يدخل مضمار التسويق؛ سواء من قِبل الناشر أو من المتلقّي الذي أدمت وسائل التواصل الاجتماعي وعيه: كأنما لم يعد مطلوباً من الكاتب أن يكتب فقط في "سوق" الكتابة؛ بل مطلوبٌ منه أن يسوّق لما يكتب. وهذا اعتراف يُضمر هزيمة الكتابة الجادَّة التي تنشغل بتقديم مقترح جمالي، إذ لم يعد هذا المرجوَّ من الكتابة. كذلك لم يعد مطلوباً أن يجترح الكاتب شكلاً يحاكي الواقع وإشكالاته.

المطلوب اليوم، في "سوق" الكتابة، أمرٌ آخر: أن يَظهر الكاتب، لا نصّه، ظهوراً مؤثّراً. وهذا بدوره اعترافٌ شاق، لأنَّه يُضمر هزيمة أُخرى، فالتأثير المطلوب يحدث وفق القيود الموجودة في المجتمعات العربية على اختلافها وتفاوتها، لا ضدّها. ما يجعل هدف التأثير، المرجوّ أساساً، تأكيد المؤكَّد والسائد والثناء عليه، لا نقاشه أو الاشتباك معه.

أخال أنَّ هذا يحدث بسبب طبيعة العصر، وما جاءت بهِ من ضرورة أن يكون الكاتب متوافراً بين القرّاء. لكن بالعودة إلى القيمة التي تبحث عنها الكتابة الجادَّة، أو تصنعها، أو تعوزها كي تكون جادَّة؛ فلا يتوقف سؤال الحرية عن الإلحاح أمام دفع الأدب لأن يكون مجرَّد سلعة مستنزفة أو مجرَّد show. فالتأثير المطلوب يحدث وسط انقطاع العمل السياسي، وانسداد آفاق التغيير. 

مطلوبٌ من الأدب أن يغترب عن مجتمعه ليدخل السوق

وكأنَّما مطلوبٌ من الكاتب، كي يدخل حمَّى التسويق، أن يساهم بدوره في تزييف الوعي الجمالي، عبر إرهاق الواقع بالمزيد من أدب النميمة الذي لا ينشغل بالقيمة الإنسانية بقدر انشغاله بالقابلية لأن يكون "إشكاليّاً". وأتركها بين علامتَي تنصيص، لأنَّ الإشكالية المطلوبة ليست المرتبطة بعسف الحاكم، ولا المرتبطة بالنظام الاجتماعي وبآفاته التي تكبّلها عقد التشدّد والانغلاق. 

أيضاً، اصطناع الإشكالية مطلوب، كي يكون الأدب قابلاً للتسويق، كمسرحيات المنع والتهديد والسرقة ونفي السرقة التي يلجأ إليها بعض الكُتَّاب. إلى جانب الكتابة بموضوعات محدّدة تأتي أيضاً من طبيعة العصر التي تُصوّر مسألة النسوية في بلد كفرنسا، التصوير نفسه في بلدٍ مثل سورية، وتُصوّر المثلية في بلد مثل ألمانيا، التصوير نفسه في بلدٍ مثل سورية. وذلك بالقفز على ما يجعل من مجتمع ما مجتمعاً خاصّاً. أي، ما يرسم خصوصيته ويحدّدها. كذلك إن المسألة ليست في قضايا يطرحها العصر بإلحاح، بالمبدأ، بقدر ما هي في الزاوية التي يُنظَر منها، وفي توظيف تلك الموضوعات، وفي إسقاطاتها السياسية والاجتماعية. 

أدبٌ لا ينشغل بالقيمة الإنسانية بل أن يكون "إشكاليّاً"

باختصار، كأنَّما -كي لا أكون جازماً- مطلوبٌ من الأدب أن يكون متغرّباً عن مجتمعه، حتَّى يدخل مضمار التسويق. من غير أن يطلب أحد بعينه ذلك، وإنَّما هي سلسلة متآلفة من التزييف قد يرفضها المرء، وقد يقبل وأحياناً ينتشي بها.

بهذه الصورة: اكتب عن اللجوء، لكن لا تكتب عن الأوطان؛ اكتب عن الجنس، لكن لا تكتب عن الحب؛ اكتب عن المثلية، لكن لا تكتب عن الإخصاء السياسي؛ اكتب في النسوية، لكن لا تكتب عن قتل النساء؛ اكتب عن أزمة الشعر، لكن لا تكتب قصيدة جيدة؛ اكتب عن موت القصة، لكن لا تكتب قصة جيدة؛ اكتب عن الحرية، لكن لا تكتب عمَّا يُعيق الحرية؛ اكتب عن المدن، لكن افترضها، اصنع تركيباً متخيَّلاً لها؛ اكتب عن مدينتك، لكن أولاً اقتلها في الواقع، اقتل حاضرها، وانزع عنها خصوصيتها. 

تشكّلت لديّ مجموعة من نصائح التسويق. لكنْ بالنسبة إلى الكتابة نفسها، فهي تبحث عن عزاء. تبحث عن قارئ يدخل المكتبة باحثاً بين الكتب عن موضوع يعنيه، ولم تشوّش الدعاية الترويجية لكاتب أو كِتاب إرادَتَه بالقراءة. 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون