كان الروس القدماء مجال بحث واستكشاف من جانب الرحالة والبلدانيين العرب والمسلمين، بدءاً من العصر الذهبي للكشوفات الجغرافية الكبرى في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين)، وفي ذلك الوقت لم تكن الأمم المتفرعة عن الروس القدماء، مثل الروس الحاليين، والأوكرانيين، والبولنديين، قد استقلوا بهوياتها القومية واللغوية بعد، إذ كانت كييف (كويابة)، العاصمة الأوكرانية الحالية، واحدة من عواصم الروس القدماء الأربع، إضافة إلى موسكو (مشقة)، وأرثا (روثينيا)، وكراكوا (كراكوف).
ولا يخفى أن العوامل الدينية والمذهبية ساهمت إلى حد ما في تبلور الهويات القومية لهذه الشعوب الشقيقة، وخصوصاً البولنديين الذين ميزوا أنفسهم عن الروس بالمذهب الكاثوليكي، بينما كانت الهويتان الروسية والأوكرانية محل تفاعل وتنابذ واندماج وانشقاق طوال القرون السبعة الأخيرة.
وقد زار هذه البلاد عدد كبير من الرحالة والبلدانيين والجغرافيين العرب والمسلمين من المشرق والمغرب، وكتبوا نصوصاً وصفية للشعوب والمدن والثروات والتجارات، تعد المصدر الرئيس لتاريخ تلك الشعوب. ولم يكن غريباً أن يلجأ المؤرخ الروسي الشهير ليف غوميليوف (1912 - 1992)، إلى المصادر العربية في تتبعه لنشأة الأمة الروسية قبل أكثر من ألف عام.
أسبقية ابن فضلان
من أهم الرحالة الذين زاروا بلاد الروس القديمة أحمد بن العباس البغدادي، الشهير باسم ابن فضلان (877 - 960م)، ولكنه لم يكتب نصاً وصفياً جغرافياً، بل نصاً رحلياً تحدث فيه عن مشاهداته وعما صادفه من أهوال. وفي حديثه عن الروس في مرحلتهم الوثنية يقول: "رأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا على نهر إتل (الفولغا)، فلم أر أتم أبدانا منهم كأنهم النخل، شقر حمر لا يلبسون القراطق ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه ويخرج إحدى يديه منه، ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه جميع ما ذكرنا، وسيوفهم صفائح مشطبة إفرنجية، ومن حد ظفر الواحد منهم إلى عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك".
ويتابع: "كل امرأة منهم فعلى ثديها حقة مشدودة، إما من حديد وإما من فضة وإما من نحاس وإما من ذهب على قدر مال زوجها ومقداره، وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضا، وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقا، وإن ملك عشرين ألفا صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة آلاف يزداد طوقا لامرأته، فربما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة. وأجل الحلي عندهم الخرز الأخضر من الخزف الذي يكون على السفن، يبالغون فيه ويشترون الخرزة بدرهم وينظمونه عقودا لنسائهم".
عادات مستهجنة
ثم يتحدث عن نظافتهم، وينتقد مسالكهم وبعض عاداتهم المستهجنة من جانبه، قبل أن يقول: "ساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى، يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة، ويسجد لها ثم يقول لها: يا رب قد جئت من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً، ومن السمور كذا وكذا جلداً، حتى يذكر جميع ما قدم معه من تجارته، ثم يقول وجئتك بهذه الهدية ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة، ويقول أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم كثيرة، فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني في ما أقول، ثم ينصرف. فإن تعسر عليه بيعه وطالت أيامه عاد بهدية ثانية وثالثة، فإن تعذر ما يريد حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هدية وسألها الشفاعة، وقال هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه، فلا يزال يطلب من كل صورة يسألها ويستشفع بها ويتضرع بين يديها فربما تسهل له البيع، فإذا باع يقول قد قضى ربي حاجتي وأحتاج أن أكافيه فيعمد إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها، ويتصدق ببعض اللحم، ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها، ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض، فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله قد رضي ربي عني وأكل هديتي".
طقوس الدفن الغريبة
وحول طقوس الدفن، يفرد ابن فضلان صفحات كثيرة لغرابتها، حيث يقول: "لما كان اليوم الذي يحرق فيه هو والجارية حضرتُ إلى النهر الذي فيه سفينته، فإذا هي قد أخرجت وجعل لها أربعة أركان من خشب الخدنك وغيره، وجعل أيضا حولها مثل الأنابير الكبار من الخشب، ثم مدت حتى جعلت على ذلك الخشب، وأقبلوا يذهبون ويجيئون ويتكلمون بكلام لا أفهمه، وهو بعد في قبره لم يخرجوه، ثم جاؤوا بسرير فجعلوه على السفينة وغشوه بالمضربات الديباج الرومي، والمساند الديباج الرومي، ثم جاءت امرأة عجوز يقولون لها ملك الموت ففرشت على السرير الفرش التي ذكرنا، وهي وليت خياطته وإصلاحه، وهي تقتل الجواري، ورأيتها ضخمة مكفهرة. فلما وافوا قبره نحوا التراب عن الخشب ونحوا الخشب واستخرجوه في الإزار الذي مات فيه، فرأيته قد اسودَّ لبرد البلد، وقد كانوا جعلوا معه في قبره نبيذاً وفاكهة وطنبوراً، فأخرجوا جميع ذلك فإذا هو لم ينتن ولم يتغير منه شيء غير لونه. فألبسوه سراويل وراناً وخفاً وقرطقاً وخفتان ديباج له أزرار ذهب، وجعلوا على رأسه قلنسوة ديباج سمورية، وحملوه حتى أدخلوه القبة التي على السفينة، وأجلسوه على المضربة، وأسندوه بالمساند، وجاؤوا بالنبيذ والفاكهة والريحان فجعلوه معه.. فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة جاؤوا بالجارية إلى شيء قد عملوه مثل ملبن الباب، فوضعت رجليها على أكف الرجال، وأشرفت على ذلك الملبن وتكلمت بكلام لها.. ثم أصعدوها إلى السفينة ولم يدخلوها إلى القبة، وجاء الرجال ومعهم التراس والخشب ودفعوا إليها قدحاً نبيذاً فغنت عليه وشربته فقال لي الترجمان: إنها تودع صواحباتها بذلك، ثم دفع إليها قدح آخر فأخذته، وطولت الغناء والعجوز تستحثها على شربه، والدخول إلى القبة التي فيها مولاها. فرأيتها وقد تبلدت وأرادت دخول القبة فأدخلت رأسها بينها وبين السفينة فأخذت العجوز رأسها وأدخلتها القبة ودخلت معها، وأخذ الرجال يضربون بالخشب على التراس لئلا يسمع صوت صياحها، فيجزع غيرها من الجواري ولا يطلبن الموت مع مواليهن.. ثم وافى الناس بالخشب والحطب ومع كل واحد خشبة قد ألهب رأسها فيلقيها في ذلك الخشب، فتأخذ النار في الحطب ثم في السفينة ثم في القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها ثم هبت ريح عظيمة هائلة فاشتد لهب النار واضطرم تسعرها".
الإصطخري وتقسيمات الروس
أما الرحالة والجغرافي أبو القاسم إبراهيم بن محمد الكرخي الإصطخري، صاحب "المسالك والممالك"، والذي توفي بعد العام 340 هجريا (951 ميلاديا)، فكتب وصفاً ميز فيه بين ثلاثة أصناف من الروس، وإن كان يجمعهم جامع واحد هو الأصل المشترك: "صنف هم أقرب إلى بلغار، وملكهم يقيم بمدينة تسمى كويابة (كييف)، وهم أكبر من بلغار، وصنف أبعد منهم يسمونه الصلاوية (سلافية)، وصنف يسمونه الأرثانية وملكهم مقيم بأرثا".
والأرثانية اسم يشبه كثيراً التعريف الروماني القديم للروس وهو الروثينية، واللافت أن الإصطخري يذكر مدينة باسم أرثا، هي عاصمة الأرثانيين، الذين يعتقد في الأوساط البحثية أنهم هم الأوكرانيون الحاليون.
ويضيف الإصطخري: "والناس يبلغون في التجارة إلى كوباية، فأما أرثا، فإنه لا يذكر أن أحداً دخلها من الغرباء لأنهم يقتلون كل من وطئ أرضهم من الغرباء، وإنما ينحدرون في الماء يتجرون فلا يخبرون بشيء من أمورهم ومتاجرهم، ولا يتركون أحداً يصحبهم ولا يدخل بلادهم. ويحمل من أرثا السمور الأسود والرصاص".
وحول عاداتهم، يقول: "الروس قوم يحرقون أنفسهم إذا ماتوا، وتحرق مع مياسيرهم الجواري بطيبة من أنفسهن، وبعضهم يحلق اللحى، وبعضهم يفتله مثل الذوائب، ولباسهم القراطق القصار".
وهذا النص نقله ابن حوقل بحرفيته، وقد نقله الكثيرون عنه من دون نسبته إلى صاحبه الأصلي وهو الإصطخري.
المسعودي ومملكة دير
ويعدد أبو الحسن المسعودي (896 - 957 م)، في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، أنواع الصقالبة، وهم شعوب السلاف الشماليين، حيث يقول: "هم أجناس مختلفة وبينهم حروب، ولهم ملوك، ومنهم من ينقاد إلى دين النصرانية، إلى رأي اليعقوبية، ومنهم من لا كتاب له ولا ينقاد إلى شريعة، وهم جاهلية لا يعرفون شيئاً من الشرائع، وهؤلاء أجناس: فمنهم جنس كان الملك فيهم قديماً في صدر الزمان، وكان ملكهم يدعى ماجك، وهذا الجنس يدعى ولينانا، وكان يتلو هذا الجنس في القديم سائر أجناس الصقالبة؛ لكون الملك فيهم، وانقياد سائر ملوكهم إليه، ثم يتلو هذا الجنس من أجناس الصقالبة اصطبرانة، وملكهم في هذا الوقت يدعى بصقلانج. وجنس يقال له دلاونة، وملكهم يدعى وانج غلاف، وجنس يقال لهم نامجين، وملكهم يدعى غزانة، وهذا الجنس أشجع أجناس الصقالبة وأفرس، وجنس يدعى منابن، وملكهم يدعى زنبير، ثم جنس يقال له سرتين، وهو جنس عند الصقالبة مهيب لعلل يطول ذكرها وأوصاف يكثر شرحها، ونفرتهم من ملة ينقادون إليها، ثم جنس يقال له صاصين، ثم جنس يقال له جروانيق، ثم جنس يقال له خشانين، ثم جنس يقال له برانجابين".
ويضيف: "ما سميناه من أسماء بعض ملوك هذه الأجناس فسمةٌ معروفة لملوكهم، والجنس الذي سميناه المعروف بسرتين يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات فيهم الملك والرئيس، ويحرقون دوابه، ولهم أفعال مثل أفعال الهند".
ويشير إلى وجود خلق كثير من الصقالبة والروس يتبعون ملك الخزر، ويقول إن الأول منهم هو "ملك الدير، وله مدن واسعة، وعمائر كثيرة، وتجار المسلمين يقصدون دار ملكه بأنواع التجارات، ثم يلي هذا الملك من ملوك الصقالبة ملك الأوانج، وله مدن وعمائر واسعة، وجيوش كثيرة، وعدد كثير، ويحارب الروم والإفرنج والنوكبرد، وغير هؤلاء من الأمم، والحرب بينهم سجال، ثم يلي هذا الملك من ملوك الصقالبة ملك النرك (النورك)، وهذا الجنس أحسن الصقالبة صوراً، وأكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً. والصقالبة أجناس كثيرة، وأنواع واسعة".
وقد درس نص المسعودي بعناية من جانب البحاثة الأوروبيين والروس، وتوصل بعضهم إلى تفسير للتسميات المذكورة، من دون حسم موضوع ملك الدير، علماً أن البعض، ومنهم المستشرق أغانتي كراتشكوفسكي، رجح أن يكون الدير هو اسم الملك دير الذي حكم إمارة كييف في وقت واحد مع أسكولد.
الإدريسي والترك الروس
بعد أكثر من قرن كتب الشريف الإدريسي (1100 - 1166م)، في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، عن الروس والصقالبة وبلادهم. وجرياً على عادة الجغرافيين المسلمين في ذلك الوقت يقسم الإدريسي الصقالبة إلى ثلاث ممالك، واحدة عاصمتها صلاو (سلافا)، تقع في رأس جبل، والمسافة بينها وبين كويابة (كييف)، المملكة الثانية التي يقول إنها مدينة الترك المسمين روساً ثمانية مراحل (حوالي 320 كم)، وأرثا وهي المملكة الثالثة، والمسافة بينها وبين صلاو أربعة أيام يتم الوصول إليها من أرمينية، ويبلغها التجار المسلمون. ويعيد الإدريسي ترديد كلام ابن حوقل المنقول عن الإصطخري حول خطورة الوصول إليها. ويضيف إلى ذلك مدينة كراكوا (كراكوف)، في بولندا الحالية، وهي المدينة التي وصفها قبله الرحالة الأندلسي أبو بكر الطرطوشي (1059 - 1126).
ابن سعيد بين كييف وموسكو
ويصف الجغرافي الأندلسي ابن سعيد العنسي المذحجي (1214 - 1286م)، مدينة كويابة (كييف)، بأنها "كانت لأعظم ملوك الصقالبة الموصوفين بالكبر. ومرساها (أي ميناؤها) في البحر المحيط، مقصود، تتجمع فيه المراكب الكبيرة، وهو أحسن مراسي تلك الجهة، وقيل إن لها، أي كويابة، اثني عشر باباً، وفي شرقيها من قواعد ملكهم، صاصين، وهي على البحر المحيط".
ويضيف: "على عشرة أيام من صاصين للمشرق، مدينة مشقة (موسكو)، وكان صاحبها من الصقلب، واسع الملك، ضخم العسكر، ويقع في هذا الجزء مدينة النساء، والصحاري محدقة بها، ولا ملك عليهن إلا امرأة. ولهن في تلك الصحاري مماليك، إذا كان الليل طرق كل مملوك باب سيدته وبات معها ليلة، فاذا كان السَّحَر، انصرف إلى مكانه، فإن ولدت المرأة ولداً قتلته، وإن ولدت بنتاً أحيتها، ولا يظهر رجل في بلدهن البتة. وفي البحر المحيط الذي في هذه الجهة الشمالية، جزيرة النساء. طولها من شرق إلى غرب، بانحراف إلى الجنوب، نحو مائتين وخمسين ميلاً وعرضها في الوسط نحو مائة وعشرين ميلاً. وفي شرقيها، جزيرة الرجال، من غرب إلى شرق نحو مائتين وسبعين ميلاً، وعرضها في الوسط نحو مائة وسبعين ميلاً. ولا تجتمع الرجال بها، ولا النساء المذكورات، إلا شهراً واحداً في السنة، وهو وقت الاعتدال عندهم، تركب الرجال في الزوارق إلى جزيرة النساء، ويعرف كل رجل امرأته، فيحيا معها مدة الشهر، ثم يرجع إلى جزيرة الرجال، فإن ولدت المرأة ذكراً، ربته حتى يصير في حد الرجال، فترسله إلى جزيرتهم، وإن ولدت أنثى، أسكنتها مع النساء".