كيف نستفيد من قرار محكمة العدل الدولية؟

28 يناير 2024
متظاهرون يرفعون أعلاماً فلسطينية أمام مقرّ "محكمة العدل الدولية"،لاهاي، أول من أمس (Getty)
+ الخط -

الذين فرحوا بقرار "محكمة العدل الدولية"، هُم غالباً الذين توقَّعوا أسوأ السيناريوهات وكانوا أقلّ الناس إيماناً بهذه المحكمة أو غيرها من المؤسّسات الغربيّة في أن تُحِقَّ الحقّ الفلسطيني، وتحمي الشعب الفلسطيني وتقف بجانبه. لا أعرف أحداً مثلاً فرح لأنّ إيمانه بالقانون الدّولي والعدالة الأُممية قد ثبت بالدليل القاطع، فقرار المحكمة بالتأكيد لم يصل إلى هذه الدرجة.

الذين فرحوا أدركوا حجم الضغط الذي بدأ يشعر به العالَم كلّه في كلّ مكان، وعلى كلّ مستوىً في ما يخصّ قضيّة فلسطين، فما كان حركةَ تضامنٍ مُتناثرة من جهات سياسية تُناضل لغايات تُشبه غايات النضال الفلسطيني، وتعاني أو عانت ممّا يُعانيه، صار حِراكاً عالمياً له زخَمٌ وصوتٌ عالٍ، حتى لو ظلّ بعيداً جدّاً عن أن يُكَوِّن أدواتٍ تنفيذية، أو يُغيِرَ موازين القوى، لكنَّ هذا يُثبت أنّ الحركة المُتضامنة مع فلسطين، والتي سمّاها إيلان بابيه "قطب فلسطين العالمي"، قد وصلت درجة عاليةً من النُّضج والثقة بالنّفْس، والقدرة على المُجادلة والدّفاع، في انتظار اللحظة التي تتغيّر فيها موازين القوى هذه أو تُتاح لها الأدوات. التنفيذية. 

بعيداً عن شعارات النصر أو عن صرخات الخيبة

فعلى سبيل المثال يلفت المُفكّر الأميركي نورمان فينكلشتاين، وهو ابنٌ لناجيَيْن من الهولوكوست، وشارك منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في عشرات البرامج والحوارات للدِّفاع عن الشعب الفلسطيني بل وحتى المقاومة الفلسطينية، يُلفت إلى دهشته من المجهود الذي قام به محامو جنوب أفريقيا في الإعداد لهذه القضيّة، وأبدى إعجابه الشديد بالمسوَّدة الضخمة التي أعدّها الفريق الجنوب أفريقي للترافُع في القضيّة، وهو يعرف كباحثٍ وأكاديمي أنّ هذا البحث والتدليل وتمحيص المصادر، لا شكّ قد استغرق على أقلّ تقدير شهراً كاملاً مع فريق كبير من الباحثين. 

يُقارن فينكلشتاين، هُنا أيضاً، بالقضية التي تنازعت فيها "إسرائيل" وتركيا، بشكل أساسي، وتتمثّل في الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" سنة 2010 والتي حاولت كَسْر الحصار عن قطاع غزّة سِلميّاً بإدخال الدَّواء والمعونات إلى القطاع؛ يلفت فينكلشتاين إلى كيفية إعداد الفريق الإسرائيلي حينها مُجلّدين أحدهما يحتوي على ألف صفحة والثاني على خمسمئة، بينما لم يتجاوز التُّركي الثلاثين صفحة بحُجج غير محبوكة. 

من جهة أُخرى، فإنّ الترافُع حول ما إذا كانت "إسرائيل" ترتكب جريمة حرب ضخمة وهي الإبادة الجماعية، واعتبار حُجج جنوب أفريقيا معقولة وتستحقّ البحث لا يُثبت فقط كفاءة هذه الحركة المُتضامنة، ولكنّه يُعطيها دفعةً وقوّةً أكبر للإصرار على مطالبها وإعلاء صوتها. فالقرار "إنجاز سياسي (وقانوني) مهم في هذه الظروف" بتعبير عزمي بشارة الذي يرى أن "التدابير التي أمرت بها المحكمة جوهرية ومهمة حياتيا بالنسبة لأهل غزة، ولا يجوز الاستخفاف بها، ومن الضروري أخذ الضغط من أجل تطبيقها بمنتهى الجدية". في حين يؤكد مصطفى البرغوثي، الأمين العام لـ"المُبادرة الوطنية الفلسطينية"، أهمّية استغلال هذا القرار للدَّفع بالمزيد من الضغط على "إسرائيل" لِفَكّ الحصار عن الشعب الفلسطيني، وتفعيل حركات المُقاطعة، وحتى فَرْض العقوبات على "إسرائيل"، ووقف التطبيع مع دولة مُتَّهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية.

أعرف أنّ كلّ هذه التفاصيل لا تعني الغزّي المُحاصر الذي لا يأمن على وجوده في أيّ مكان، وربّما لا تعني غالبية الشعب الفلسطيني الذي يعيش الخوف على أمنه وسلامته ومصادر رزقه، وخصوصاً اللّاجئين الذين يتجاهل العالَم كلّه حقَّ عودتهم المُقرَّر وفقاً لهذه اللوائح والقوانين التي نغرق الآن في تحليلها، ونُبالغ في ردّات فعلنا عليها. 

لكن ثمّة كثيرون يؤكّدون أهمّية هذه المُرافعة وضرورة الاستفادة منها، ليس لأنه سيأتي يومٌ يستيقظ فيه ضمير العالَم ليُنصفنا، وليس إنكاراً لحقيقة أنّ القانون الدولي أُسِّس ليحمي مصالح الدول الكبرى التي تعادينا علناً ومن دون حرج، ولكن برأيي لسببين أساسيّين: الأول هو ملاحظة التقدُّم الفكري والاجتهاد الذي صارت تمتلكه اليوم حركة التضامُن العالَمية مع فلسطين، وقدرتها على صياغة سرديتها وإعلانها في العالَم بغاية الانضباط والقوّة، الأمر الذي كان الغرب يدّعي دوماً تفوُّقه فيه وبالتالي حقّه اللّامُستحقّ في الجَرْي خلف مصالحه وتبرير كلّ "الأخطاء" في تحصيل المكاسب. 

والسبب الثاني، هو أنّ هذه المُرافعة ثمّ قراءة المسوّدة التي تقتبس تصريحات أعلى مسؤولي الاحتلال، ستكون مرجعيّة لكلّ من يُريد أن يُعلي صوته للدّفاع عن الشعب الفلسطيني وحماية أرواحه وممتلكاته، وإدانة "إسرائيل"، خصوصاً في بلدان مثل ألمانيا وغيرها التي هدَّدت وخوّفت واعتقلت متظاهرين وفنّانين وكتّاباً على خلفيّة دعمهم للقضية الفلسطينية. كلّ هؤلاء لديهم اليوم أرضيّة ثابتة يقفون عليها، فهي من ناحية تُقوِّيهم وتُحرِّرُهم مِن الخوف مِن رَفْع أصواتهم، ومن ناحية أُخرى تكون مصدراً يرجعون إليه للدِّفاع عن أنفسهم وإسقاط التُّهم التي يُرمَون بها. 

بعيداً إذاً عن شعارات النصر، أو عن صرخات الخيبة والنَّدم، فكلّ ما يحصل اليوم على أرض الواقع مُؤلم وثقيل ومُتعب، لكنّ هذه خطوة كان يجب أن تُتَّخذ واتُّخِذت، ونتائجُها تُبشِّر بخير إذا، وفقط إذا، كانت هناك خطواتٌ أقوى وأسرع وأشجع تَتْبعُها، ودروسٌ تستخلصها منها شعوب، وربّما أيضاً حكوماتُ الجنوب العالمي.

 
* كاتب من فلسطين مقيم في ألمانيا

المساهمون