"كلمة" فلسطينية في برلين.. بحثاً عن مساحات ثقافية بديلة

30 نوفمبر 2024
ستيف سابيلا، في الوسط، خلال لقائه مع تيم خليفي ومايكل بارينبويم (Oukool Collective)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تُعقد في ألمانيا لقاءات ثقافية تفتقر لتمثيل الصوت الفلسطيني، رغم وجود تجمع فلسطيني كبير في برلين، مما يثير تساؤلات حول أسباب الإقصاء.
- أطلق مايكل بارينبويم وتيم خليفي سلسلة لقاءات "كلمة" في برلين لتوفير منصة للفلسطينيين للتعبير عن أنفسهم، مستضيفين شخصيات متنوعة مثل عُريب طوقان وسامي الخطيب وستيف سابيلا.
- تناولت اللقاءات مواضيع متعددة، حيث أكد ستيف سابيلا على أهمية الفن في تحرير الذات والمخيلة، مشيراً إلى أن الفلسطينيين يبحثون عن بدائل لإيصال صوتهم بعيداً عن المؤسسات الثقافية المقصية.

منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، يُعقد عددٌ كبير من اللقاءات في الجامعات والمؤسّسات الثقافية الألمانية، للحديث عمّا يحصل هناك. لكن بينما تبرز عناوين مثل "تعدُّد المنظورات" و"مقابلة الآراء"، نجد أنّ أغلب المدعوّين للحديث هُم أساتذة ألمان أو إسرائيليون، بينما يغيب الصوت الفلسطيني بشكل شبه كامل. وحتى عند حضور من يُفترض أنهم يمثّلون الفلسطينيّين ويُدافعون عن حقوقهم، فإنّ هؤلاء يكونون شخصيات ألمانية أو غربية بشكل عامّ، ربما اعتقاداً من المؤسّسات التي تستضيفهم أنّهم سيكونون أكثر التزاماً بمعايير البلدان التي يأتون منها، وهكذا تضمن أن يكون تضامنُهم مقيَّداً.

كيف يُمكن أن يحدث هذا بينما تحتضن برلين أكبر تجمُّع فلسطيني في أوروبا؛ هذا المجتمع الذي شكّل على مدى سنوات عديدة جزءاً أساسياً من بنية المدينة الاجتماعية والثقافية، وأسهم أبناؤه في تشكُّل المشهد الفنّي والمعرفي؟ سؤالٌ طرحته "العربي الجديد" على قائد أوركسترا "الديوان الغربي الشرقي"، مايكل بارينبويم، فأجاب: "لا يُمكن أن يكون هذا إلّا تجاهلاً متعمَّداً".

بالشراكة مع الموسيقية الفلسطينية تيم خليفي، أطلق بارينبويم، مؤخّراً، سلسلة لقاءات بعنوان "كلمة"، تستضيف شخصيات فلسطينية بارزة في برلين وألمانيا، وتُعقد في "مقهى ليتريتيدج"؛ أحد الصالونات الثقافية المعروفة في المدينة.

استضاف اللقاء الأوّل ستيف سابيلا وعُريب طوقان وسامي الخطيب

عُقدت أولى اللقاءات قبل أيام، واستضافت المُخرجة عُريب طوقان، وأستاذ الفنون وفلسفة الإعلام سامي خطيب، والفنّان ستيف سابيلا. ووفق بارينبويم وخليفي، فإنّ هذا التنويع في الاختيار هدفه "إظهار اتساع المجالات التي يُبدع فيها الفلسطينيّون الذين يصلون إلى مراتب عُليا، تجعلهم بدورهم مرجعيات وشخصيات بارزة، كلٌّ حسب تخصُّصه".

في حديثهما إلى "العربي الجديد"، أكّد بارينبويم وخليفي ضرورة إتاحة منصّة مفتوحة لأصحاب "العقول اللّامعة" من الفلسطينيّين، "خصوصاً مع ما يُعانيه هؤلاء هُنا في ألمانيا؛ حيث لا تُوجد جهة واحدة مستعدّة لتقديمهم من دون اشتراطات مسبقة، أو بتحديد إطار ضيّق للغاية يعرضون فيه أنفسهم وأعمالهم". وهكذا، تترك "كلمة" للضيوف اختيار الطريقة التي يريدون أن يظهروا بها، مع عدم الاقتصار على إجراء محاورة تقليدية معه. يوضّح المتحدّثان: "عملُ الضيف وشخصيّتُه هما ما يُحدّد شكل الأُمسية التي قد تكون محاضرةً أو لقاءً تفاعلياً".

من جلسات كلمة - القسم الثقافي
جلسة مع المُخرجة عُريب طوقان (Oukool Collective)

ويضيفان: "للفنّان حرية أن يختار المَحاوِر التي يريد الاستفاضة في الحديث عنها، فهو يستطيع أن يتحدّث عن مُجمل أعماله وأسلوبه الفنّي، أو التركيز على عمل مُعيّن، كما يُمكنه أن يختار قضية أو سؤالاً ملحّاً ويطرح رؤيته حولها. وهذا يتيح التعرّف إلى الضيوف عن قُرب، ومعاينة تفرُّد كل واحد منهم في الأفكار والأسلوب والتجربة والإنتاج". 

ويضيفان: "تتّسم اللقاءات بالعفوية والارتجال، فنحن موسيقيّان ولسنا مختصَّين في تنظيم اللقاءات العامّة واستضافة الفنّانين. لكنّنا نصرّ على ملء هذا الفراغ الكبير؛ إذ إنّ هناك الكثير من الظواهر التي تُثير حنقنا في الآونة الأخيرة، وبدل الشعور السلبي بالسخط والعجز، قرّرنا خوض تجربة نُبادر فيها إلى إيجاد ما نفتقده ونريد وجوده".

ضيوف متنوّعون يعكسون غنى النشاط الفلسطيني الثقافي

وبينما أخذ اللقاء مع الأكاديمي سامي الخطيب شكل محاضرة أكاديمية استعرض فيها ورقة بحثية بعنوان "ضدّ التفرُّد: فلسطين كعرض وسبب في آن واحد"، كان اللقاء مع الفنّان التشكيلي ستيف سابيلا عرضاً لأعمال بصرية متنوّعة من فوتوغرافيا وأعمال تركيبية، استعرض من خلالها محطّات شخصية شكَّلت رؤيته وتجربته الفنّية.

في حديث إلى "العربي الجديد" بعد اللقاء، قال سابيلا إنّ العام الحالي كان مفصلياً بالنسبة إليه: "هذه أوّل سنة لا أحوّل فيها أفكاري إلى أعمال جاهزة ومكتملة"، مُشيراً إلى أنّ وتيرة العدوان هذا العام فاقت كلّ تصوّر، وقد احتاج معها إلى فترة طويلة لاستعادة نفسه، لكنّه يضيف: "هذه اللحظة لا يجوز أن تدوم إلى الأبد أو أن تضع نهاية لمسيرة الفنّان والكاتب والمفكّر، بل يجب أن تدفعه لينشط أكثر في البحث عن أساليب جديدة تجعل صوته أقوى وحضوره أبرز في مواجهة"، مؤكّداً أنّه يعيش مرحلة "إعادة تكوين"، ليس فقط على مستوى شكل العمل الفنّي، بل على مستويات عرضه وتواصله مع الجمهور، وهو يحضّر اليوم لعدد من المشروعات الجديدة.

استفاد سابيلا من اللقاء للحديث مع جمهور مدينة برلين التي تمرّ بدورها بتغييرات كبيرة على المستويين الثقافي والاجتماعي، نتيجة تكشُّف دور المؤسّسات الثقافية والجهات المانحة، وقد وجّه رسالةً مفادها أنّه لا يوجد في العالم مدينة محميّة أو شعب محميٌّ، وأنّ "العالم كلّه على كفّ عفريت"، وأنّ "الدول تتحمّل نتيجة انحيازاتها السياسية والشعوب تدفع ثمن سكوتها".

كلمة - القسم الثقافي
جلسة مع أستاذ الفنون وفلسفة الإعلام سامي الخطيب (Oukool Collective)

وبوصفه فلسطينياً كان ضحية لما سمّاه "استعمار المخيّلة" تحدّث ستيف سابيلا عن ضرورة "تحرير المخيّلة"، مؤكّداً أنّ ذلك "ليس عملية سهلة على الإطلاق. أنا خيّطتُ روحي بالأسلاك الشائكة، وأخرجت الاحتلال من جسدي"، ودعا الجمهور إلى فعل الأمر نفسه للتعامل بوعي مع عُقدة الذنب الألمانية التي يدفع الفلسطيني اليوم ثمنها: "هذا الفلسطيني الذي يُتوقَّع منه اليوم أن يقبل لنفسه ما لا يرضاه أحد، أي ترك بلده أو الرضا بأن يكون مواطناً من الدرجة الثانية".

يؤكّد سابيلا على عالمية التجربة الفنّية، والتي تتخطَّى الانتماءات العِرقية والثقافية، وتؤسَّس على أخلاقيات جامعة، ويجب أن تُسهم في تحرير الفلسطيني لمخيّلته وذاته، لأنّ ما يُطالب به هي حقوقٌ أساسية يُفترض ألّا يعارض أحدٌ مطالبتَه بها.
وفي هذا السياق، يقول سابيلا، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إنّ ثمّة وعياً متزايداً؛ حيث صار كثيرون أكثر جرأةً في الحديث والتفكير، لافتاً إلى أنّ "على الجميع الاستفادة من تجربة الإنسان الذي حرّر مخيّلته وآمن أنّه صاحب إرادة حرّة"، مضيفاً: "الأمل موجود طالما هناك إنسان واحد يتخيّل عالماً أفضل، والفنّ هو المكان الذي يحفظ ويغذِّي هذه المخيّلة". 

يُلاحَظ من خلال الفعاليات المختلفة في ألمانيا أنّ التطوّرات الأخيرة على الساحة الثقافية دفعت بأغلب الفلسطينيّين والمتضامنين معهم إلى أخذ مواقف أكثر وضوحاً ومبدئية، بعد أن أقصتهم المؤسّسات الثقافية تماماً من المشهد. وبهذا يتوقّف الفلسطيني عن محاولة إثبات انسجامه مع رؤية هذه المؤسّسات لتقبل به، ويبحث عوض ذلك عن بدائل لإيصال صوته.

على برنامج سلسلة "كلمة" جلسةٌ في التاسع من الشهر المُقبل، تستضيف ناهد سمور؛ الباحثة في "معهد البحوث التكاملية للقانون والمجتمع" التابع لكلّية الحقوق في "جامعة هومبولت" ببرلين، وأُخرى مع الكاتب غياث المدهون في الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير المُقبل، وثالثة في السابع عشر من شباط/ فبراير مع شيرين صيقلي؛ أستاذة التاريخ المساعدة في "جامعة كاليفورنيا"، ورابعة مع همَّت زُعبي؛ الباحثة في علم الاجتماع الحضري والناشطة النسوية الفلسطينية في الثاني عشر من آذار/ مارس.

المساهمون