كفاحنا مُرٌّ

31 يناير 2024
امرأة فلسطينية بجانب شارع جرفته قوات الاحتلال في جنين، 29 كانون الثاني/ يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

ولدت فلسطينيًّا. لهذا السبب أنا شخصٌ يحبّ الحياة، ولكن ليس لدي ارتباط خاصٌّ بالأشياء. مملكتي خارج الفضاء الخاص. ولا يهمني أن يتبدَّل هذا، ما دام ثمّة وفرة في الفضاءات العامة، وهذا من حسن طالع البشر أجمعين، واللاجئين منهم بالخصوص. 

كلا: لم يكن الفضاء الخاص (المنزل ومحتوياته، من مكتبة، مثلًا) كثيرًا معي على الإطلاق. ولهذا، من ضمن أسباب أخرى، خرَجَ من مجال الاهتمام، ربّما منذ عقود. أهلي في النكبة، أُجبروا قسرًا على خسران ممتلكاتهم، من أرض وزراعة ومنازل وحيوانات وطيور، وجاؤوا قِطاع غزّة بثيابهم فقط.

راحت الأرضُ وراحت الدار. وكان يجب عليهم وعلينا أن نبدأ من الصفر الوجودي والمادي، بأتمّ المعنى. كافحوا وكافحنا. كَدحوا وكدحنا، حتّى ليصعب الآن على جيلنا الإجابة عن سؤال: في أيّ عمل يدويٍّ لم نعمل؟

سكنوا في خيام نيلون وسكنّا. ثم بنت "الأونروا" لنا على سوافي الرمل (بالمناسبة: هو أنظف وأطرى وأجمل رمل على الكوكب)، بيوتًا ضيّقة قليلة الإسمنت، وتعلوها صفوف القرميد الرمادي الهشّ.

بعد تحرير البلد ممكن أن نرتبط بالأشياء إلى أقصى درجة

هكذا مضت طفولتنا، ولما بلغنا سنّ العاشرة، بدأ الكفاح، وبعد مرور عقدٍ زمنيٍّ ونصف، استبدلنا القرميد ذاك بألواح "الإسبست" الرمادية، ولكن بعد طرْشها بالشيد الأبيض. ثم واصلنا الطريق، حتّى انصرمت عقود، فكان لنا بيت من باطون، وكان أن ارتحنا من دلف المطر (معلش: أرجو أن يغفر لنا التاريخ أننا تبرجزنا قليلًا).

لكن هذا الوغد، كما يبدو، لا يرحم ولا يغفر. فلقد طاف خبر في الإنترنت، مفاده: بيوتنا، أنا والأخوات والإخوة، وكلّ الشعب العظيم.. العوض بسلامتك.

في برهات، خرجنا من بيوت مُحترمة كلّفت شقا العمر كلّه، وبعضنا ما زال مديونًا من ثمنها القديم، إلى خيام نيلون في رفح العظيمة. بنات أخواتي كتبن فوق صورة لأنقاض بيوتهن: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

أمّا أنا فقلت: الأهمُّ أن نبقى أحياء. وأن يخرج منّا مقاتلو تحرّرٍ وطنيٍّ، كي ترتاح تلك الأجيال التي ما زالت في ماضي الله ومستقبلنا.

إنّها الحياة تتكرّر أيضًا بما في جوفها من نكبات. لكن معلش: بيوتنا وأجسادنا أضعف الإيمان تجاه البيت الأكبر المسروق، الذي هو ليس وطنًا فحسب، بل أجمل من ملكوت الفردوس.

لهذا، وإن كان هذا ثقيلًا ولا إنسانيًا علينا جميعاً، أتمنّى على الـ 15 مليون فلسطينيٍّ، أينما كانوا، أن يكونوا مثلي: لا مجال لأي ارتباط خاص أو علاقة بالأشياء الحميمة.

لنتعلّم من جيل آبائنا وأمهاتنا: لنتعلّم من درس علم اجتماع النكبة الأولى: عاش هؤلاء وماتوا، دون ذرّة إحساس بالاستقرار في مكان ما، والعيش في نفس المنزل، وشراء الأثاث وأدوات المطبخ.

كانت أمي الزاهدة طوال عمرها تقول: أي حاجة بتمشي. بمعنى: كلُّ قليلٍ، كثيرٌ. أجل. البيت، الفضاء الخاصّ وما ينجم عنهما؟ ليس هذا وقته، والله. بعد تحرير البلد، ممكن أن نرتبط بالأشياء، إلى أقصى درجة.

الآن وغدًا هما مرحلتا كفاحٍ مُرّ.

 

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون