وُلِدَتْ بعضُ الشخصيات المُهمّة في الأدب التركي في الأراضي العربية. هؤلاء الكتّاب والشعراء الذي وُلدوا خارج إسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، أقاموا في ما بعد في العاصمة لأسباب مختلفة، لكنهم لم يتمكّنوا من التغلُّب على مَزاجهم الخجول في البيئة الجديدة التي جاؤوا إليها. لقد استغرق الأمرُ وقتاً طويلاً ليُثبتوا أنهم جزء من "الوسط الأدبي" في إسطنبول. نقف هنا عند ثلاثة أسماء وثمة غيرها بالطبع: أحمد هاشم الذي ولد في بغداد، ويعقوب قَدْري (كارا عثمان أوغلو) الذي ولد في القاهرة، وبَكِر إلهامي (تيز/ الطُّوَيْبي) الذي ولد في طرابلس بليبيا.
أحمد هاشم
يُعتبر أحمد هاشم الذي وُلد في بغداد عام 1887، من رُوّاد الرمزية في الشعر التركي الحديث، ولديه فهمٌ فريدٌ للشعر والنثر. ينتمي نَسَبُه إلى عائلة الآلوسي في بغداد. كان والدُه قائمَ مقام لمدينة الحِلَّة في العراق. يمكن في شعره اقتفاءُ آثارِ رحلاتِ الشاعر على طول ضفافِ نهرِ دجلة مع والدتِهِ المريضة. إذ يقول أحمد هاشم في قصيدته "قَدَح":
"امرأةٌ مريضةٌ على نهر دجلة كلَّ مساء
تحمل طفلَها المريضَ
يمُدّ الضبابُ الورديُّ غطاءَهُ على الصحراء
وهي تنتظر ميلادك
والأفق الهادئ الذي يبدو مُهمَلاً ومتعَباً
يهتزُّ ثمّ يُمْحى... وتنّورةُ الليل تُخفي كلَّ ما حوله".
استغرق الأمرُ وقتاً ليُقبلوا في الوسط الأدبي التركي
عندما كان أحمد هاشم في التاسعة من عمره، تم إحضاره إلى إسطنبول للدراسة وتحسين لغته التركية. وكان أصدقاؤه في "مدرسة غلاطة سراي السلطانية"، يدعونه Arap Haşim أي "هاشم العربي"، نظراً لضعف لغته التركية. استُخدم هذا اللقب فيما بعد للمدح أحياناً وللذمّ أحياناً أُخرى طَوال حياته.
وينتقد أحمد هاشم المُتطرّفين من القوميّين الأتراك الذين لا يَرَوْنَهُ من أقحاح الأتراك، قائلاً: "إذا ثمَّةَ حربٌ فأنت تركيٌّ، قالوا لك: تعالَ إلى جبهة المعرَكة، لكنْ إذا عمَّ السلام، وأنت بحاجة إلى عمل، أو وظيفة قالوا لك: ماذا تفعل في تركيا، ارجعْ إلى بغداد!".
يعقوب قدري
أما يعقوب قَدْري فهو أحد الأسماء المهمّة في الأدب التركي بالعصر الجمهوري، وُلد في القاهرة عام 1889. وهناك، كانت لغتُه التركية ضعيفةً لأنه يتحدّث العربية في الغالب. وقد عانى من هذا الوضع بعدما عاد هو وعائلتُه إلى مدينة مانيسا التركية. كان أطفالُ الحيّ عندما يُصادفونه يضحكون ويقولون الكلامَ الآتي غناءً: "Araboğlu, Araboğlu, ayakları Şam’a doğru" (يا ابْنَ العربي، يا ابْنَ العربي، يا مَن قدماه متّجهتان إلى الشامِ).
يقول يعقوب قَدْري إنه عاش حياة "أسطورية" في مصر. وبعد عودته إلى مانيسا، تركتْ حياتُه المُفعَمة بالحيويّة في القاهرة مكانَها لمَزاجٍ مُتشائم وغير مُستقرّ. عاد الكاتبُ بعد فترة إلى القاهرة حيث التحقَ بـ"مدرسة فْرانْ" الفرنسية. أُتيحت له الفرصة لقراءة أفضل أسماء الأدب الفرنسي بفضل اللغة الفرنسية التي تعلّمها. التقى أعضاءَ "حزب الاتحاد والترقي" (القومي) في مصر ووطَّدَ علاقاتِه معهم.
ليعقوب قَدْري قصّةٌ قصيرة طريفة تحت عنوان "الوجه الحقيقي للأمر". بطلُ القصة شكري بك له رغبة شديدة في الذهاب إلى الحج. وأخيراً تتحقّق رغبتُه ويصل إلى دمشق في قافلة الحج، لكنْ بسبب الثورة التي أقامها شريفُ مكّة لا يستطيع مواصلةَ رحلته إلى الحجّ فيبقى في دمشق. بعد فترة، يتعرّف إلى مسعود بك الذي يستخدم بيتَه مكاناً للّعب واللهو. في هذا البيت يقع شكري بك في غَرام راقصة، ويُنفقُ كلَّ أمواله التي ادّخرها من أجل الحج لهذه الراقصة. في نهاية المطاف يعود إلى بلده مُفلساً. والملاحظ في القصة أنّ هناك كلماتٍ تُركتْ محجوبةً في النص نتيجة قرار الرّقيب. يُفهَم من سياق النص أن الكلمات المحجوبة هي: "دمشق، عَرَب، اللغة العربية، الجامعُ الأموي، شريفُ مكّة".
إلهامي بكر (الطويبي)
كاتب آخر وُلد في الأراضي العربية عام 1905 في طرابلس بليبيا هو إلهامي بَكِر. اسمه الأصلي اَلْحامي بَكِر الطُّوَيْبي. بعد صدور قانون الألقاب في تركيا، لم يُقبَلْ لقبُه "الطويبي" في دائرة الأحوال المدنيّة، بحجة أنها كلمةٌ أجنبية، فاستخدم كلمة Tez بمعنى "سريع" لقباً لنفسه، ليصبح اسمه بالتركية İlhami Bekir Tez. هاجَرَ الكاتبُ الذي فقد والدَيْهِ في سنٍّ مُبكّرة مع عمِّه إلى إسطنبول. لكنه بعد فترة فقد عمَّه أيضاً، فنشأ في دار الأيتام. له رواية تحت عنوان "رواية من الرّوايات" صدرت عام 1965، وهي روايةٌ ذاتُ ملامحَ سيرة ذاتية، مبنيّةٌ على موضوعاتٍ مثل الاضطهاد، والاستغلال، والاستقلال، والوطنية، والحرب ضدّ الإمبريالية. هناك مقتطفات في الرواية عن البربر والعرب في شمال أفريقيا.
* أكاديمي ومترجم تركي، أستاذ اللغة العربية في "جامعة غازي" في أنقرة