قياس الرحلة

15 ديسمبر 2021
جزء من لوحة لـ وائل درويش (مصر)
+ الخط -

أستيقظ فجراً، وأصعد إلى شرفة الطابق الأخير. الطقس صاح، وسماء القدس تشرع في تبديل ألوانها: يتحوّل الأسود الغمامي إلى أزرق فيروزي فورديّ فاتح. ندى الفجر لا يزال ناضراً على حواف الأفاريز.

أنظر أمامي: بعد قليل ستطلع الشمس ويعمّ الورديّ تقدمة للذهبيّ. آه ما أجمل هذه اللحظة: شروق الشمس وانعكاسها على قبة الصخرة!

وآه ما أبهى أن تُنصت للكائنات، من طير وحيوان وبشر، وهي تستيقظ لتبدأ يوماً جديداً.

ما من مدينة فتنتني وفدحتني في آن مثل القدس. فحين يتواشج الجمال السماوي مع المأساة الأرضية، تكون الفتنة وتكون الفداحة.

إنّ مدينة كهذه، لتحتاج إلى أديب ملحميّ، لا واحدٍ من أمثالنا. فما من مدينة في الأرض مثقلة بالتاريخ، مثلها.

وما من مدينة في الأرض، كل سنتيمتر من مساحتها مغمور ببركة دم، مثلها.

ترى كيف يمكن للمرء أن يكتب القدس؟

أعذرهم أولئك الأدباء المقدسيين. حِمْلهم أثقل من طاقتهم. أُعطوا مدينةً خلفها خمسة آلاف سنة من الصراع، وأُعطوا احتلالاً هو أبشع وأخسّ الاحتلالات قاطبة في التاريخ.

ولم يُعطَوا، لا الوقت ولا الظرف، ولا فرصة التقاط النفَس.

وهكذا لم يُقدّر للقدس كاتبٌ كبير يكتب مأساتها وجمالها، أدباً يخلُد في التاريخ.

إنها الظروف يا سيدي.

الظروف التي تجعل أدباءها، أولَ الناس، سعياً وراء لقمة العيش، ومكابدةَ اليوميّ المبتذَل.

ليرحمهم ويرحمها مثلث الرحمات، إن كان لمثل هذا وجود.


■■■


أُقيس أية رحلة بهذا المقياس: هل تغيّرت لغتي بعد تلك الرحلة؟ هل دخل نُسغ جديد لروحي؟ هل توسّع أُفقي؟ وهل أستطيع، بعد العودة، كتابةً مختلفة؟ أقول هذا وأعرف: ثمة من يسافرون لهذا الغرض، فيُفسدون عليهم الهدفين معاً: الرحلة والكتابة.

لذا أجاهد كي أعيش تفاصيل رحلتي أو زيارتي أو سفرتي، كأنني مواطن فقط لا كاتب. وحين أرجع لمكاني المألوف، أجاهد من جديد، لأكتب بشكل مختلف. حيناً أنجح، لكن أغلب الأحيان أفشل. فليس من اليسير على الكتّاب أن يأتوا بجديد، سواء في المطلق أو النسبي. ربما لهذه الأسباب مجتمعة، إضافة لأسباب أخرى غامضة، يسافر الكثير من الأدباء، ولا يكتبون عن رحلاتهم.


■■■


الكتابة اليوميّة تحافظ على "سخونة اليد" بتعبير ماركيز. وسخونة يدك مطلوبة كي لا تهجرك الكتابة. عندما تبرد يدي، ما الذي يحدث؟ يحدث أن تزداد برودةً يوماً بعد يوم. وهذا يعني ازدياد العَنَت والصعوبة كلما حاولتُ الرجوع للقلم والورقة. حتى كأنني لم أكتب من قبل. وحتى أعجبُ: كيف كتبتُ ما كتبتُ سابقاً. كأنّ واحداً غيري هو الذي كتب.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول زيارته مدينة القدس المحتلة عام 2009 حين كان يعيش في غزة

المساهمون