قصّة للنسيان

27 نوفمبر 2020
كاظم خليل/ سورية
+ الخط -

يمكن لكل سوري هنا في الداخل أن يروي لك عشرات القصص عن نفسه، أو عن أصحابه، فيما يخص النسيان. يبدو النسيان نعمة إذا ما ذكرنا عدد المصاعب اليومية التي يُطلب من السوري تحمُّلها. الطريف أنهم ما عادوا يغضبون منك إذا نسيت، يكفيك أن تقول: "نسيت"، فقط، كي يقبل الآخر العذر. لا لأنه إنسان، والإنسان نسّاء، أو كما قال الشاعر: "ما سُمّي الإنسان إلّا لنسيه"، وإنما لأنه يعلم أن دوره آت بعد ساعة، أو أقل من ذلك أو أكثر، كي يقول لك إنه نسي أيضاً. والمسألة لا تتعلّق بنسيان موعده مع طبيب الأسنان، بل نسيان زوجته في محلّ الأقمشة، أو أن يخرج من بيته كي يشتري خضروات للبيت، فيذهب إلى المقهى ليجد أنّ موعد لقائه بأصحابه كان بالأمس. ينسى أين وضع قلم الكتابة وهو في يده، ويمكن أن يتشاجر مع أولاده وهو يبحث عن السمّاعة التي يضعها داخل أذنه. 

الجميع يروون قصص نسيانهم، وقد يضحكون، ولكنه ضحك كالبُكا؛ فالنسيان فرار من الجريمة التي تقتات من لحم السوريين، وقد تجاوزت الجرائم، على أنواعها، والمفاجآت التي تحملها سواء من حيث نوعية مرتكبيها، أو من رخصها ودونية الدوافع إليها، الحدود التي يستطيع الدماغ أن يفهمها أو يتحمّلها. فينسى. النسيان هرب من جائحة كورونا، وهي ثقل آخر لم يكن في حسبان السوري المثقل بأعباء الحاضر، وعليه أن يكون حذراً تجاهها، فينسى أن يلبس الكمّامة، أو ينسى أنّ عليه أن يمتنع عن المصافحة، وهي عادة يصعب التخلُّص منها، ويذهب لشراء اللوز الذي قيل له إنه قد يساعد جهاز المناعة، ناسياً أنّ سعره صار يعادل نصف دخله الشهري. 

إنه عمل العقل وهو يحاول التريث أمام خلل مريع في توازنات الحياة

النسيان اختباء من القسوة والخيانة والغدر. النسيان حالة دفاع. محاولة للتملُّص من الحاضر، والرحيل إلى الصامت والمجهول. النسيان ذكاء الدماغ الخائف. لا يقمع النسيان ذاكرتنا، بل يريحها، يساعدها على التخلُّص، أو على التملُّص، من ثقل الأحداث التي تهلك كيانها. ولهذا ترى نوعاً من الوحدة والتعاون بين الذاكرة السورية والنسيان، تنسى اليومي، وتتذكّر التاريخ. بينما كانت من قبل، أي قبل أن تتمرّد وتُعلن عن خطابها الجديد، تنسى التاريخ، ولا تتذكّر غير اليومي. والنسيان هنا ليس ذاكرة فرويدية مكبوتة، بل ليس ذاكرة على الإطلاق، وليس إصابة في الدماغ، بل هو عمل العقل وهو يحاول التريُّث أمام هذا الخلل المريع في توازنات الحياة، أو يسعى للتأنّي في تأمُّل خراب حساباته في تقدير المستقبل، وقد خاض السوريون الحرب من أجل المستقبل، بغضّ النظر عمّا كان يرى هذا أو ذاك ماذا سيحدث في المستقبل، ولأنها حرب خسر فيها الجميع، فإنهم يرغبون أن ينسوها.

وبعكس ما قال بول ريكور في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" من أنّ الكثير من أمور النسيان تعود إلى الإعاقة في الوصول إلى الكنوز الغائرة للذاكرة، فإن النسيان هنا يمنع الذاكرة من أن تقلق الجسد. إذ لم تعُد لدى السوري أيّ كنوز، فيساعده النسيان في التخلّص من النفايات التي يمتلئ بها رأسه من حاضر مريع مدمَّر.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون