منى السعودي - الراحلة منذ أيام (1945 - 2022) - نحّاتة، بل قد تكون النحّاتة الوحيدة التي نعرفها، من قُرب، في الفنّ التشكيلي العربي. ليست النحّاتات، على كلّ حالٍ - كثيرات في الفن العالمي، بل هنّ بالأحرى لسنَ شهيرات، ولعلّ هذه الشهرة كانت تفوتهنّ أحياناً في حين كنّ يستحققنها. للنحّاتة الفرنسية كاميّ كلوديل، مثلاً، قصّة مع رودان. يُنسب إلى كامي كلوديل، عشيقة رودان، أنها أثّرت في فنّه، بل يدّعي البعض أن لها يداً كبرى في العمارة الرودانية.
ما بقي من فن كلوديل لا ينفصل تماماً عن الأسلوب الروداني، وهناك مَن ينسب إلى كلوديل أولوية في ذلك، لكن هذا يبقى موضع سؤال. الشائع هو أن حياة كلوديل الشقيّة، التي عصف بها المرض والقلق، لم تُعرف إلّا بمكانها من رودان، وأن كاميّ كلوديل هي، في النهاية، في صِلتها برودان.
قد نجد في تاريخ الفنّ سرباً من النحّاتات، قلّما يُضاء عليهنّ وقلّما ينلنَ ما يستحققنه أحياناً من شهرةٍ هُنّ أهلٌ لها. لعلّنا نجد وراء نحّاتين معروفين نحّاتاتٍ يقتربن منهم، لكنهنّ يبقين غالباً في الظل. وراء زادكين وهنري مور، على سبيل المثال، أسماء بقيت في النسيان. يمكننا في هذا السياق أن نفكر بنحّاتة مهمّة للغاية، هي الفرنسية ـ الأميركية لويز بورجوا، التي توفّيت عام 2010 بعد حياة طويلة عامرة بالإنتاج.
لويز بورجوا هذه لم تنل، هي الأخرى، الشهرة التي تستحقّها فعلاً، وإن يكنْ هناك تململٌ حول هذا الأمر، دعا نقّاداً ومهتمّين الى أن يستدركوا هذا الإهمال، وأن يضيئوا أكثر على عمل يقف بجدارة إلى جانب الآثار الكبرى في القرن العشرين. ربّما حفّزت على ذلك نسويّةُ لويس بورجوا، التي لم تكن نظريّةً فقط، بل تغلغلت إلى فنها نفسه. إذ يمكن أن نجد موضوعاً شاغلاً في نحت بورجوا، وهو موضوع العنكبوت في نحتها، موضوع العنكبوت الذي اعتبرته بورجوا موضوعاً نسوياً ورمز إلى المرأة بالعنكبوت.
يبدو الخط العربي، بتشابكه وتوازنه، الملهمَ الأول للفنانة
كان فن بورجوا من الجرأة بحيث دخلت الأعضاء الجنسية للرجل والمرأة في العمل النحتيّ. لا يمكننا أن نتعرّض للويز بورجوا بدون أن نُلقي نظرة على فنٍّ قادر على أن يصنع توازناً موسيقياً في الأعمال، فيما هي قائمة على الحشد والتجمّع وعلى الكثرة في أحيان كثيرة. خيوط العنكبوت في منحوتات العناكب هي بذات هذه القدرة على الإيقاع والرهافة. لا بدّ أن فنّ بورجوا سيبقى لذلك مُلهماً أكثر فأكثر، ومُضيئاً أكثر فأكثر في النحت الحديث.
منى السعودي، الأردنية، نحّاتة أوّلاً، بل يبدو أنّ أكثر ما تفعله هو النحت فحسب، سواءً كان ذلك في تماثيلها أو في رسومها وحتّى في كتاباتها. لم يكن لمنى من النحت سواه، ورغم أن رسومها كانت تستدعي أشعاراً وأحياناً قضايا، إلّا أن هذه جميعها مطوّعة للنحت بشكلٍ خاصّ. لن نجد في فنّها ما يشبه نسويّة بورجوا وجرأتها الجنسية على سبيل المثال، بل لن نجد في نحتها، وهي المناضلة، أثراً لهذا النضال. النحت فنٌّ لا سابقة له في التراث العربي، بل والدين يُنكره، ولا يبدو أن منى رجعت إلى التراث النحتيّ الباذخ في المنطقة. ليس في فنّها آثار للفنّ الآشوري أو الكلداني بعامّة، أو الفينيقي أو المصري. لم يكن من هموم منى أن ترجع إلى هذه الفنون، كما فعل نحّاتون عرب آخرون.
مع ذلك نجد أن فنّها، الذي هو عبارة عن مفردات نحتية، ليس مفرداتٍ مجرّدة فحسب، بل هي أنساقٌ تتمثّل الحجر وتُحاول أن تُرسيه على ما يبدو أصلَه أو طبيعته أو وجهه الطبيعي. مفرداتٌ هي في حقيقة الأمر نوتاتٌ حجريّة، أو إيقاعات من حجر. هذه الجملة الموسيقية قائمة في مفردات منى السعودي التي ليست نصبية، بقدر ما هي داخلية، وتلتفّ على نفسها في عودة إلى القاعدة، في كتلة موزونة تنعقد حول ذاتها، وتشكّل نوعاً من عمل لا يتّجه إلى السماء بقدر ما يؤسّس داخلاً يتجمّع على السطح وفي الأسفل.
هذا لا يعني أن فن منى السعودي بلا سابقة وبلا تراث. عدا ما يرجع إليه هذا الفنّ في النحت التجريدي المعاصر، فإننا، ونحن نتطلّع إليه، يسعنا أن نفكّر فوراً في فنٍّ عريق في التراث هو فنّ الخط العربي أو الحروفية العربية. هذا الفنّ، يمكننا أنْ نفكّر في حركيته، وفي التفافاته، وفي أشكاله المتشابكة، وفي انعطافاته الداخلية، وفي مفرداته وتوازناته الإيقاعية ومعماره الموسيقي. هذا الفنّ يبدو وكأنه بالدرجة الأولى مُلهِمُ منى السعودي، بل هو وراء ما في منحوتات السعودي من تكامُل ومن سلاسة ومن إيقاع، بل هو وراء ما في هذا الفن من أناقة وتناسق، ما في مفرداته من بهجة صامتة بقدر ما هي مُوحية، من الإيحاء الإيعازي وشبه الصامت، بقدر ما هو أعراسيّ، وبقدر ما مفرداته أقربُ إلى أن تكون حُليّاً، أو تزيينات، أو أنساقاً متوازنة.
* شاعر وروائي من لبنان