فن ما بعد الانفجار

17 يناير 2021
جزء من لوحة "العصفور الأزرق"، سمعان خوام (من المعرض)
+ الخط -

ماذا في الفن في بيروت؟ بعد تراكب انتكاسات عدّة ليس كورونا وحده فيها، بل الانهيارات الاقتصادية والسياسية، وأخيراً لا آخراً انفجار المرفأ الذي شمل بيروت كلها، وخاصة المنطقة الشرقية منها التي تغلب عليها بيئة مسيحية تعني انفتاحاً مباشراً على الغرب، وابتعاداً عن الموجة القومية التي تحلّ مسألة فلسطين في صميمها.

هل يمكن الكلام عن فن ما بعد الانفجار في المنطقة الشرقية، ومنها في لبنان. المعرض الجماعي الذي أُقيم مؤخّراً في "ميسيون آرت" في الجميزة من بيروت الشرقية، يقول هذا على نحو مخفَّف. في المعرض الذي استضاف فنانين شباناً في الغالب، صادفنا بعضهم في الصالة، نعثر على فنّ يصعب تحديد سلالته ومصادره. الأمر نفسه قد ينطبق بالدرجة نفسها على الفنون الشابة كلها في المرحلة الراهنة. لا نستطيع بسهولة أن نرد فن الشبان إلى مدرسة بعينها، أو موجة قائمة بذاتها، أو نمط فنّي. الأمر نفسه نصادفه أيضاً في الشعر والأدب بوجه عام.

قد يكون السبب أنه ليس هناك موجة عالمية سائدة، أو مدرسة مسيطرة في الفنون المعاصرة. هنا، كما هناك، الفنانون يصنعون أساليبهم الشخصية من أصداء وموجات مختلفة وأسماء شتى. في صالة "ميسيون آرت" نلتفت إلى اللوحات المعروضة فنجد أن معظمها ينتسب، على نحو ما، إلى التعبيرية. في لوحات كريستوف بارون التي تضم ثلاثة أعمال على الخشب نجد أن الصفحة الخشبية التي تلقت رسوماً خطية، تلعب دوراً في الأسلبة وفي التصوير، إنها مشاهد على رصيف تحت جدار، والرصيف والجدار والأشخاص المرسومون يتّخذون من الخشب طابعاً محلياً تظهر فيه المدينة والأشخاص في بيئة خاصة، وحركة تقرب من النمنمة. الخشب يُظهر مكانية العمل، فيما لوحات أخرى، واحدة منها لدينا عساكر، من أسود وأبيض، يساعد هذان اللونان على إظهار ترتيب حسابي للجمع، وعلى نمنمة تقرب من الإيقاع. سنجد في المعرض إلى جانب ذلك نساء تغلب عليهن القسوة والسن. لكن اللوحات القليلة التجريدية تبدو غريبة عن جو ما بعد الانفجار. تشهد كلمات عرضها الفنانون إلى جانب لوحاتهم، عن تأثرهم بقسوة الواقع والانفجار، ولجوئهم إلى الطبيعة أحياناً كملاذ. لكن الطبيعة في اللوحات تبدو، فعلاً، إضافة إلى الواقع من الخارج.

اللوحات المتقاربة تُشعر أنها مقاطع في عمل واحد

في استديو لوما رباح معرض لفنانين ثلاثة، أسنّهم سمعان خوام يبلغ الخامسة والأربعين، وهو إلى جانب فادي الشمعة ولوما رباح يشغل الصالة. سمعان خوام مصوّر إلى جانب كونه شاعراً، وليس شاعراً على هامش التصوير، إنه شاعر تردّنا أشعاره غالباً إلى لوحاته، التي تبدو أقرب إلى أن تكون قصائد قصيرة. الفنانون الثلاثة يعرضون ما اشتغلوه، خلال شهر في الصالة. سمعان خوام الجالس إلى الطاولة في الصالة لا يزال يواصل الرسم، ولوحاته، هذه المرة، تشتغل على موضوع واحد تقريباً، يضم رأساً وعصفوراً على الرأس. رأس وعصفور مؤسلبان، يبدوان في أوضاع مختلفة، لكن الرأس فيها يبقى نفسه. يبقى مجرد وجه، والعصفور الذي هو، في الغالب، متكتّل على نفسه، ورأسه غائر فيه، كأنه ابتلعه. يقع العصفور على الرأس من فوق غالباً، أو قد يقع عليه من جهة الوجه، وقد يظهر في قليل من الأحيان تحته. العصفور مؤسلب، إنه الجسد والجناح والرأس، هذه جميعها رسم يبدو فيه العصفور مزيجاً من مطرقة، ومن سكين، ومن شكل نصبيّ. هذا الشكل يوائم الرأس الذي غالباً ما يكون منفتحاً لتلقّي الطائر، الذي يسقط عليه ويكاد يغوص فيه. يبدو أن هذا الهبوط لا يوحي بالسقوط العنيف، ولا يندّ عن قسوة. ثمة بين العصفور والرأس قدر من التساكن، الذي يقرُب من السكون. ثمة ما بين الاثنين ما يشبه العبث الصبياني. اللوحات المتقاربة تُشعر أنها تكاد تكون مقاطع في عمل واحد، أو لنقل قصيدة واحدة.

فادي الشمعة صديق سمعان خوام، لدرجة أنهما يعملان أحياناً على لوحة واحدة. هو رغم ذلك مختلف عن سمعان لدرجة التعاكس. فادي الذي هو في حالة تجريب مستمر، وفي نوع من الهجوم الدائم على الفن، استقر في هذا المعرض على لوحة تجريدية. هي رغم ذلك، قابلة أكثر لتكون محفورة أو منحوتة. إنها دوائر منصوبة بقسوة على خطوط متشابكة. فادي يقف الآن هنا لكنه لن يبقى، إنه مزيج من كل الأساليب والطرائق، وهو في كل يوم بأسلوب واقتراح. لكن تجريد فادي كتعبير سمعان كتجريد لوما ينطوي على قدر من القسوة. إننا أيضاً في فن ما بعد الانفجار.

لوما رباح صاحبة الصالة تملأها بلوحاتها، التي تبدو في الغالب مائلة إلى التجريد، لكنه أيضاً تجريد مفتوح وبطرائق مختلفة. لا نعرف أين سترسو الشابة. بعض تجريداتها يُخفي نزوعاً إلى التشخيص، وفي بعض تجريداتها غنائية إلى حد صارخ، فيما البعض الآخر بتبقيعات غنائية. لسنا متأكدين أن ذلك سيكون مستقبلها، لكننا أمام فنانة تجرّب، وإن في المكان نفسه، وتبحث هكذا عن نفسها وعن أسلوبها.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون