"فلورا للجميع".. تحرير فضاءات الثقافة الألمانية من دُعاة الإبادة

15 أكتوبر 2024
من أمام مبنى "فلورا الحمراء" في هامبورغ، 2017 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأسست "الفلورا الحمراء" في هامبورغ عام 1989 كمركز ثقافي وسياسي مستقل، لتوفير مساحة حرة للنشاطات بعيداً عن رقابة الدولة والمستثمرين، وهي جزء من ظاهرة تحويل المباني التاريخية في ألمانيا إلى مراكز مستقلة.
- شهدت "الفلورا الحمراء" تحولاً جذرياً بسيطرة حركة "معاداة الألمان"، مما أدى إلى تغيير موقفها من التضامن مع القضايا الفلسطينية إلى التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي، متبنية سردية الغرب ضد الشرق.
- أطلقت حملة "فلورا للجميع" لاستعادة السيطرة على "الفلورا الحمراء"، بهدف دعم الناشطين والفنانين المتضامنين مع الفلسطينيين، وتوسيع العمل السياسي ليشمل العرب والمسلمين لمواجهة الفاشية المتزايدة.

في نهاية عام 1989 أعلنت مجموعة من النشطاء اليساريّين "احتلالهم" بقايا مبنىً قديم لمسرح "فلورا" في مدينة هامبورغ شمالي ألمانيا، وأعلنوا افتتاح ما سمُّوه "روتي فلورا" أي فلورا الحمراء، لتكون ملتقىً لنشاط ثقافي وسياسي، يُدار ذاتيّاً، ولا يقبل أي دعم مادّي أو لوجستي من أي جهة حكومية أو مدنية.
  
احتلال المباني القديمة خصوصاً صاحبة التاريخ الثقافي، كدُور السينما والمسارح وتحويلها إلى "مراكز مستقلّة" ظاهرةٌ منتشرة في ألمانيا تقوم بها عادة مجموعات من اليسار واليسار الراديكالي، بهدف إيجاد مساحات وأماكن حرّة ومستقلّة للنشاط الثقافي والسياسي بعيداً عن رقابة الدولة أو منافع المستثمرين، خصوصاً إذا كانت هذه البنايات مُهدَّدة بالهدم وتحويل نشاطها بالكامل، ما يُؤثِّر على البناء الاجتماعي في الأحياء التي توجد فيها، كرفع إيجار البيوت مثلاً.

وبما أنّ التضامن العالمي هو أحد أهم محرّكات العمل الثقافي والسياسي لليسار، فقد استضافت "الفلورا الحمراء" في السنوات الأولى لإنشائها فعاليات تضامنية مع نضال الشعب الفلسطيني، إلا أن هذا تغيّر بشكل راديكالي في السنوات الأخيرة، بحيث تحول المكان والقائمون عليه إلى التواطؤ التام مع جرائم الاحتلال والاحتفاء بها، والصمت الكامل عمّا يحدث في غزّة، الأمر الذي دفع ناشطين آخرين من داخل المدينة، خصوصاً أصحاب الخلفية المُهاجِرة والذين يتم إقصاؤهم بشكل متعمَّد من المشاركة والنشاط داخل "الفلورا الحمراء" فقد قرّر هؤلاء إطلاق حملة بعنوان "فلورا للجميع"، تُطالب بفتح المجال للناشطِين والفنّانين الآخرين الذين يُريدون إعلان تضامنهم مع الفلسطينيّين من داخل مبنى "الفلورا الحمراء".

يسار "راديكالي" متّسق صهيونياً مع سردية اليمين المتطرّف

والسبب في هذا التحوّل الغريب في مركز ثقافي يُفترض أنه مستقلّ وحرّ هو سيطرة حركة "معاداة الألمان" على المكان حسب ما أدلى به أحد مُطلقي الحملة "كيني" (اسم مستعار) في حديثه مع "العربي الجديد".  

"معاداة الألمان" من أغرب الظواهر السياسية في ألمانيا، فهي حركة تنشط في الأوساط اليسارية، وتدعو إلى محاربة الفاشية، لكنها ترى أن المجتمع الألماني كلّه كان مشاركاً في الجرائم النازية، وأن هذا المجتمع يتّجه دائماً وبحكم طبيعته إلى تشكيل حكومات فاشية باستمرار على غرار النازية، ولهذا يُعارض "المعادون للألمان" كلّ أشكال الوطنية الألمانية، بل ووجود دولة قومية ألمانية، وفي مقابل هذا يُظهرون تضامناً كاملاً مع "إسرائيل" والصهيونية في تكفير عن "الذنب الألماني"، ويستندون في ذلك إلى بعض تنظيرات ثيودور أدورنو (1903 - 1969) وماكس هوركهايمر (1895 - 1973). 
 
ويُضيف كيني في حديثه عن هذه الحركة إلى "العربي الجديد": "إنها تتبنَّى سردية الغرب في مواجهة الشرق الشرير، وترى في الإسلام والمسلمين خطراً على الحضارة الغربية"، فهي بهذا تجعل الإسلام وما تُطلِق عليه "الفاشية الإسلامية" هدفاً لانتقادات مستمدَّة من أدبيات اليسار في الحديث عن القوى الرجعية المُحافِظة التي تمنع حركة التاريخ التقدُّمية، و"في هذا اتساق كبير مع السردية اليمينية المتطرّفة التي بدأت تسود في ألمانيا، وتزويد لها بالخطابات المُعادية للمهاجرين والبلاد التي يأتون منها".

وقد انطلق هؤلاء، كما يروي كيني لـ"العربي الجديد"، سنة 2015 من مبنى "الفلورا الحمراء" في مسيرة ضمّت قرابة ألف وخمسمئة شخص، رافعين أعلاماً أميركية وإسرائيلية، اعتراضاً على ما وصفوه بمغالاة اليسار في الخطاب المُعادي للإمبرالية، ومع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة فقد ارتفعت حدّة الشعارات العنصرية والمعادية للفلسطينيّين داخل "الفلورا الحمراء" ومن الناشطين فيها، كان آخرها هجوم أحد الموسيقيين المنتظمين داخلها على "مخيّم فلسطين" في "جامعة هامبورغ"، وتمزيقه بعض اللافتات.

الانتقال بسياسات المُهاجرين من ردّ الفعل إلى استراتيجية فاعلة

لذلك ترى حملة "فلورا للجميع" ضرورةً قصوى في إعادة السيطرة على المنشأة وتخليصها من العنصريين والمتواطئين مع الصهيونية باسم اليسار ومحاربة الفاشية، خصوصاً مع "افتقار المجموعات المتضامنة مع الفلسطينيّين إلى القدرة على بناء هيكليات تنظيمية راسخة تؤسّس عليها نشاطاً فاعلاً ومستمرّاً، وأول خطوة لبناء مثل هذه الهيكليات إيجاد وخلق مساحات للاجتماع والتبادل المعرفي والثقافي"، كما جاء في بيان الحملة. 

وقد رحَّب القائمون على حملة "فلورا للجميع" بتظاهرة عفوية انطلقت منتصف شهر تموز/ يوليو الماضي، حيث علّق نشطاء أعلاماً فلسطينية ولافتات وشعارات على مبنى "الفلورا الحمراء". 

أما بالنسبة للخصوصية التي تتمتَّع بها منشأة "الفلورا الحمراء" فيما يتعلّق بالتضامن مع النضال الفلسطيني، فيروي كيني عن فترة التسعينيات حين كان يرتاد الفلورا في شبابه بأنه "كان يُنظر إليك بغرابة إذا دخلت المكان دون ارتداء الكوفية الفلسطينية، التي كانت في ذلك الوقت رمزاً للنضال العالمي ضدّ الاضطهاد والظلم!".

يؤكّد كيني لـ"العربي الجديد" أنّ هذه التحوّلات على الساحة الثقافية والسياسية في ألمانيا تُنذِر باقتراب سيطرة الفاشية على الدولة في ألمانيا، فهذا الانسياق الغريب من جميع الأطياف حول سردية المُعاداة للغريب، والعِداء لمجموعة عِرقية أو ثقافية بعينها، هو بالضبط ما يؤسّس لصعود الفاشيّين.  

لمواجهة هذا الخطر لا يرى كيني بُدّاً من ضرورة تغيير الوجه الذي يتصدَّر العمل السياسي والثقافي في ألمانيا ليستوعب العرب والمسلمين بشكل أساسي، كون هؤلاء أكثر الفئات تعرّضاً للهجوم وحملات التحريض، بينما لا يبدو أن المنتمين إلى فئات "معاداة الألمان" وغيرها من الحركات الألمانية التي تستثني الأجانب، يفهمون معنى الفاشية وظروف الفئات التي تُعاني منها ومن تغيُّر المزاج داخل المجتمع.

ويرى كيني في السيطرة على "الفلورا الحمراء" وغيرها من المنشآت والمراكز الثقافية "استراتيجية فاعلة"، على عكس "سياسة ردّ الفعل" التي كانت الطابع الأساسي في نشاط العرب والمسلمين وغيرهم من الأقلّيات، يقول: "هُم يتظاهرون ويعقدون المنتديات بعد وقوع جرائم عنصرية أو انطلاق حملات تشويهية، لا قبل ذلك، لكن مع وجود منشآت تتبع هيكلية معيّنة ستكون لدينا القدرة على قيادة الرأي العام وتوجيه الخطاب المُعادي للفاشية". 
 

المساهمون