يصعب أن أتذكّر من أين جاءت إلى ذاكرتي مقولة أنّ فلسطين فكرة. وهي مقولة قديمة لديّ، حدّاً أعتقد أنّها جاءت من أحد النقاشات المدرسية، وفلسطين مِن الأحاديث التي يلتفّ مِن حولها التلاميذ في سورية. وكثيراً ما أُخذت بفكرة أنّ بلداً بحاله؛ محض فكرة. لمزيد من الإيضاح، كانت فكرةً عن العدالة، وعن استعادة الحقوق، وعن مقاومة الاحتلال، وعن إلحاح الحرية. في المقابل، كانت فكرة عن انتزاع البشر من أرضهم، وعن تعدّي الاحتلال، وعن عنف الظلم والتمييز، وعن انحياز "المجتمع الدولي" أو أكذوبته.
كان يمكن أن أستمرّ في التعامل مع فلسطين على أنّها فكرة، بما تشير إليه هذه المقولة من استحالة. إنّها مقولة حالمة بالنهاية، تطوي داخلها حقائق العجز والهزيمة والتعزّي بالآمال. لكن مع ذلك، كان يمكن لاعتقادي أن يستمرّ بالنمو إلى أن جاءت أزمنةٌ سمعتُ فيها من صديقٍ اضطرّ إلى أن يغادر سورية بأنّ سورية مجرَّد فكرة. إن كنتُ قد تقبّلت، بل سُحرت بأن يصير بلد لم أزُره، لم أعش فيه، لم أصنع ذكريات في شوارعه، محض فكرة، فلم أستطع تقبّل هذه الاستعارة في ما يخص بلداً أسكنه. نفيُ وجوده ينفي وجودي.
وهكذا، سُرعان ما أدركتُ أنّ اعتبار بلدانٍ، بجبالها ومدنها، مجرَّد أفكار ما هو إلّا آلية دفاعية يبتكرها الإنسان كي لا يفقد صلاته مع الأرض كلّها، ما إن يفقد أرضه، وكي لا يفقد صلاته مع المعمورة، ما إن يفقد بيته. افتراض العيش داخل فكرة، لا وطن، يُمثّل آلية نفسية تنقل الوجود من حيّزه المادي، إلى الحيّز النفسي. أظن أنّه أمرٌ يشبه تعاطي المرء مع خديعة الحب، ومع هجر المحبّين، ومع غدر الأصدقاء. أحياناً كي يستمر الإنسان إنساناً؛ يلجأ إلى أن يخدع نفسه... بأن يعزل القيم الكُبرى عن تجاربه المؤلمة.
كانت دوماً جزءاً من وجدان الإنسان السوري العادي
وفي هذا، لا أريد القول إنّنا نعيش في بلدان تجاربنا معها مؤلمة، لأنّ المسألة ليست شخصية بهذا القدر، وإنّما في ما يخصّ فلسطين، كانت دائماً جزءاً عميقاً من الوجدان السوري اليومي. لمزيد من الإيضاح، كانت جزءاً من وجدان الإنسان العادي، أقصد عامل الإطفاء، والفلّاح في القرية، والممرّض في المستشفى، لا النخبة التي يختلف خطابُها بين فترة وأُخرى حسب الشرط السياسي.
وفي سورية، كان الشرط السياسي في العقد الأخير ضاغطاً، لا لأنّ سورية نفسها مهدَّدة بأن تصير فكرة، بل لاعتبارات نكوص الربيع العربي ككلّ، ما انعكس سلباً على حضور فلسطين في الخطاب العامّ، فالأنظمة كثيراً ما جعلت من فلسطين ذريعة لقهر شعوبها، وما جعل "التطبيع" يمرّ بلا مظاهرات كُبرى في العواصم العربية. وهذا مفهوم، فالأوطان جميعُها صارت تحت تهديد الانتزاع، تحت تهديد أن تُنقل من الجغرافيا إلى الحيّز النفسي لدى مواطنيها المنفيّين أو اللاجئين أو الذين يعيشون ظروفاً اقتصادية وسياسية صعبة.
يشقّ على المرء أن يعيش من غير وطن. فكيف، وهو يعرف أنّ لديه وطناً. لكنّ وطنه مُنتزع، وطنه منهوب، وطنه لم يعد له. وفي لحظة تخلٍّ، يمكن أن يفكّر أنّ وطنه لم يعد يريده، أنّ وطنه طرده. إذ عند الإنسان الذي أَرهق وعيَه عنفُ النفي وعسف الحاكم، قد ترتبط صورة الأوطان بصورة أنظمتها. وهذا شعور خطر على الإنسان نفسه، إذ يغرِّبه عن قضاياه. لكن بالنسبة إلى فلسطين في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، يدين المرء لأناس مجهولين صنعوا وعيه، لأناس عاديّين مثل اللاجئ الذي حمل مفتاح منزله معه لأجل يوم العودة، وهو متأكّد من أمر عودته، ومتأكّد من أنّ وطنه ينتظره.
وانتبهت إلى إمكانية أن يتصالح المرء مع مقولة أنّ وطنه فكرة مؤجَّلة. لكنه لا يتصالح مع تغيير هويته، ومع مقولة أنَّه لم يعد وطناً فلسطينيّاً.
* روائي من سورية