فاتو ديوم: الكتابةُ بحرّية أو الصمت

16 سبتمبر 2023
فاتو ديوم خلال مشاركتها في برنامج تلفزيوني فرنسي، 2007 (Getty)
+ الخط -

هذه المحاولة التأمّليّة التي صدرت منذ أيام بعنوان "الكلمة الحرّة أو الصمت" (دار ألبان ميشال)، هي صرخةُ غضبٍ ودُعاء، إدانةٌ وصلاةٌ، جمعت فيها الكاتبة فاتو ديوم (1968)، بين التعبير عن عشقها للكتابة وبين التنديد بممارسات دُور النشر والقائمين عليها، وبعضهم من وجوه الثقافة البارزة، قبل أن تختمها بالمطالبة بحريّتها المُطلقة ككاتبة مستقلّة. فما هو مدار هذه الصرخة وما مداها؟

مُرتَكز هذا النصّ استعارة "الفارسة" المُصاحِبة أو الرديفة التي تكمن مهمّتُها، حسب تقاليد الفروسية الغربية، في الإمساك بزمام الجواد والتحكّم في جموحه وإيقاع سَيره لمساعدة الراكب الفتيّ. وبما أنّ ديوم لا تنتقد مديرَ نشر بعينه، فإنّها ابتكرت هذه الشخصيّة لترمُز من خلالها إلى مسؤولي النشر الذين يتدخّلون في مسار الكتابة ويُمسكون بِزمامها، مثل هذه الفارسة، عبر فرْض نسق الإنتاج الأدبيّ وتعيين موضوعاته وحتى تحديد دفق الأسلوب وطلب الخوض في ثيمات دون غيرها وإقصاء تلك التي لا تتماشى مع توجّهات السوق.

فمن المُضحكات المُبكيات أنّ بعض الناشرين، وهُم من وُجوه الأدب، لا يتورّعون عن مطالبة ديوم أن تروي حكاياتٍ من أفريقيا، كما لو كان الناس متحلّقين حول النار يتسامرون، مؤكّدين لها أنّ "الجمهور لا يحتاج لا إلى نَفَسها الشعري ولا إلى عمقها الفلسفي"، بل إلى قَصَص غرائبي. يريدون أن يتمخّض قلمُها عن "فِيَلةٍ وقَصب خيزران وسِحْر القارة السّمراء"، كما لو كانت مجرّد "دليلة سياحية".

تعبّر عن حُبّها للكتابة وتُندّد بممارَسات دُور النشر

فقد كان يُطلب منها، في إطار نفخ الأقلّيات المرئية والتبجّح بالتنوّع الثقافي للمجتمع الفرنسي، أن تُركّز في كتابتها على رُوح أفريقيا وأن تَلزمَ مكانها في هذا الحيّز فقط، فلا تتجاوزه نحو الآفاق الكونية التي لا يمكن لقلمها أن يصل إليها، في رأيهم. إذ ما يختفي وراء هذا الخطاب الاستعلائي هو الرغبة الباطنة في أن يظلّ الكاتب الأفريقيّ أو العربي، وهُما في الاستغلال والتهميش سواء، في إطار الموضوعات المقترنة بهُويّة المهاجِرين، وأن يبحثا في ثيماتها الفرعية، كالغربة والمنفى والجسد المُعذّب، في حين تبقى الموضوعات النبيلة حكرًا على الكتّاب البيض الذين يُسمح فقط لأقلامهم بالخوض فيها.

كما انتقدت صاحبة "ماريان تَرفع دعوًى" (2017)، مبدأ الآجال القصوى ultimatum، فكمْ من مدير نشر يطلب منها أن تضع أقصوصة في ظرف أسبوعيْن فقط! فكأنّما تتحكّم في عملية الصياغة عبر الضغط على زرّ فتولَد القصّة، دون الأخذ بعين الاعتبار لا حالتها النفسية ولا مزاجها الإبداعي. ومن المُستحسَن، تضيف ديوم ساخرةً، أن تكون القصّة حكايةً من أفريقيا تروي قفزات حيواناتها الغرائبية وأدغالها الأسطورية.

ثم ندّدت بالرقابة التضييقية التي باتت تمارسها دُور النشر عوضًا عن النهوض بدور المُصاحبة والإرشاد. فقد صارت تُعطي الأوامر وتُبدي في تفاصيل النصّ الأدبي وتُعيد بغرض تكييفه حسب نزعات السوق وتموّجات الذوق السائد، بقطع النظر عن آراء الكاتبة وسَوْرة الإبداع لديها، وهي التي ترفض التقيّد بأيّ إملاءٍ خارجي.

الصورة
الكلمة الحرة أو الصمت

وفي معرض ذلك، أدانت صاحبة "بطن الأطلسي" (2003)، عملية الإفقار المستمرّة التي يكابدها الكتّاب في فرنسا بسبب عدم قدرة الدولة ولا مؤسّسات النشر على حماية أعمالهم الأدبية من القَرصنة وتمريرها إلى الشبكة العنكبوتية دون رضاهم. هم فقط مطالَبون أكثر فأكثر بالعمل (التطوّعي)، لكنْ دون أيّة حماية ولا مكافآت تتناسب مع جهودهم المبذولة. يكتبون ثمّ يدفعون المال حتى تُنشر كتاباتهم. وإن طُبعت لا يظفرون إلا بنسَب ضئيلة. مهزلة تفضحها ديوم بجرأة.

وأمّا القسم الثاني من الكتاب، فهو عبارة عن مناجاة، يقربُ أسلوبها إلى جنس الابتهال، تدعو المولى فيها أن يهبَها حرّية الكلام حتى لا تتوقّف ريشتُها عن الرقص التلقائي، دون أمر خارجي. وفيه أيضًا تحيّة للكتابة وتكريم لها، بما هي فعل تحرُّر وجنون. فبما أنّه قد سُمِح لها بارتكاب هذا الجنون، فهي تودّ أن يكون كاملًا، لا رقابةَ عليه ولا ملام. وتخلص في النهاية إلى التذكير بجوهر الخلق الأدبي وهو الحريّة ورفعة الرأس: صَميم الإبداع لديها أنفةٌ وشُموسٌ، وليس للكاتب أن يركنَ إلى أي ضَغْطٍ، أو ليَخترْ الصمت فهو أصون لكرامته.

أسلوب هذه المحاولة شعريّ، ينضح صورًا واستعاراتٍ، فيه نَفَس البحث مع انسيابيّة هادئة، يُظهر ثراءَ الكاتبة التي تمتح من مصادر الأدب العالميّة، ولا ينحصر نصّها في نمطٍ واحدٍ. فقد وشّحته بعشرات الشواهد والمَراجع الكونيّة، بما فيها آياتٍ من الذكر الحكيم أدمجتها في لُطفٍ وذكاء مثل آية النجم: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى"، فضلًا عن إشارات إلى ينابيع الأدب العالميّة وتحاوُر معها في محاولة لتَبكيت مَن يرى فيها "مجرّد" أفريقية عليها أن تقنع بسرد مآسي المهاجرين واسترجاع قضاياهم الأبدية.

ليس مسموحاً للأفريقي سوى الكتابة عن المُهاجِرين

ومن خلال نقد ما يجري في فرنسا، فضحت ديوم، بشكل غير مباشر، ما يجري في عالَمنا العربيّ: فكلّنا يعلم ما يكابده الكتّاب المبتدئون من المعاناة من أجل النشر، وما يخضعون له من إملاءات وتدخّلاتٍ سافرة. فلئن تميّزت هذه الأخيرة، في فرنسا، بالتخفّي والمَكر، فإنها في بلداننا فظّة مباشِرة، تمارسها السُّلط السياسية والاجتماعية والدينية جهارًا، فتُراقب أدنى مكوّنات النصّ وتسعى إلى خَنقه وحَصره ضمن الأُطر التي تعتبرها ثوابتَ مقدّسة لا مجال للمساس بها. ويضطرّ الكاتب إلى تحجيم خياله وتعديل لمساته خوفًا من مقصّ الرقابة.

هذه المحاولة هي مرافعة من أجل الحريّة، دعوة "لانتفاضة الكتّاب" ولا سيّما المبتدئين ضدّ هذه الدُّور وتدخّلاتها المتزايدة في مسار الكتابة وتحليق الخيال. وبذلك تُخرج ديوم علاقة الكُتّاب مع الناشرين ومؤسَّساتهم من طور المَسكوت عنه إلى طور الإدانة الصريحة. ولا ننسى أنّ لهذه الدُّور سلطة فعلية على الكُتّاب، فهي التي تتحكّم في مصائرهم، وبأيديها مفاتيح نجاحهم أو خمولهم. ولذلك غالبًا ما ينحني أمامها هؤلاء المبتدئون ويخضعون لرغباتها، في حين آثرت ديوم فضح ممارساتهم حتى لو كلّفها الأمر الصمت بقيّة حياتها، وهو أخشى ما تخشاه. فهي تفضّل قول الحقيقة أو الغياب، وتؤثر الصدق مع الذات على الانسياق إلى شهوات الناشرين الذين يسايرون تموّجات السوق ولا يسعون إلّا إلى البيع الوفير عبر العزف على أوتار العواطف وإثارتها.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس



بطاقة

Fatou Diome كاتبةٌ فرنسية منحدرة من أصل سنغالي، تعمل أستاذةً في "جامعة ستراسبورغ" الفرنسية، وهي عضو في "الأكاديمية المَلكية" في بلجيكا. برزت منذ 2003 بكتابها "بطن الأطلسي" الذي تُرجم لأكثر من عشرين لغة، إلى جانب "سُمّار سينغومار" (2019)، و"ما به يطيب العيش" (2021)، كما صاغت محاولة ذات طابع سياسي بعنوان "ماريان في مواجهه المزوّرين" (2022) انتقدت فيها الأحزاب اليمينية المتطرّفة.

آداب وفنون
التحديثات الحية
 
المساهمون