فؤاد بلامين.. بحثاً عن مكان قديم

19 ابريل 2021
مواد مختلفة على قماش، 170 × 190 سم، 2019 (من المعرض)
+ الخط -

في البداية، ثمة هذه الصورة الموحية، بالأبيض والأسود: يظهر الفنّان في محترفه، في استراحة أو قيلولة. قامته المعتدلة، المقتضبة، تتمدّد على أريكة الجلد الوثيرة، ببنطال وقميص أسودين، يشيان بأناقة تتباين كلّيّاً مع بقع الصباغة التي تلطّخ سائر القماش الفاخر، محاكيةً ضربات فرشاته على سطح اللوحة، وكأنما يرتدي الفنّان باطن القماش الذي عملت اللوحة على إخفائه. قسمات وجهه مسترخية، راضية: اليد اليسرى تستريح على بطنه في دعة. لا يبدو نائماً رغم إغماضة عينيه الخفيفة، بل مستغرقاً ومتأملاً، تحت النظّارة الطبية، بما أن يده اليسرى تمسك بذقنه بحركة غير استحواذية، كما لو كان يلامس فكرة بعيدة أو حلماً طال انتظاره، فيما يفرد قدميه اللتين تنتعلان حذاءً جلدياً قصيراً على الحاشية، مُسدِلاً قبّعة نظيفة ظليلة على الجبين، ويشعر بالتأكيد بسعادة غامرة.

ليست لوحات فؤاد بلامين (1950)، في معرضه الاستعادي "فاتحة الإبداع" ــ المستمرّ حتى يوم غد الثلاثاء في "متحف الفن الحديث والمعاصر" بالرباط ــ من جنس اللوحات المعلّقة للزينة، بانتظار إطراء زوّارها الكسالى. هي لوحات تعطي انطباعاً بأنها ماثلة هنا من تلقاء نفسها، أصيلة وليست دخيلة. ينبعث منها ضوء مغوٍ ومربك في الوقت نفسه. كلّما ابتعدنا من مجال اللوحة تزداد شفافية، وكلما اقتربنا منها تغيم ألوانها وظلالها الفاتحة. لذلك يتعيّن النظر من مسافة تسمح برؤية مثالية. 

طبيعة اللوحات، بشكل عام، مائلة إلى العتمة الشفّافة الخجولة. ثمة كثافة موزّعة بالتساوي على الظلّ والضوء اللذين يتناوبان على تأثيث فضاء اللوحة: لا يتنازعان على سيادة الفراغ بقدر ما يتجاوران معاً في تآلف كامل. الألوان تبدو صامتة، خافتة ومشروخة. وحتى عندما تكون قويّة بشكل استثنائي، تظلّ معالمها غائمة أو مغلّفة بهالة. يمكننا تعقُّب التفاصيل التشكيلية الصاخبة التي تولد في حاضر اللوحة؛ يمكننا تتبّع مسار طبقات الصباغة السميكة التي تشكّل البنية الداخلية لها كصفائح تكتونية زاحفة، لكنْ سرعان ما تلتهم العينُ المشهديةَ كلّها، ماسحة هذه الجيولوجية اللونية، لأنها تتعرّف في خرائطيّتها إلى اللوحة ــ الكتلة، في الوقت الذي تتعرف فيه أيضاً إلى قانون جاذبيتها الآسرة.

معجم جمالي متقشّف يجنح تدريجاً إلى البساطة والتجريد

بإمعان النظر في طريقة توزيع الألوان على اللوحة، يتّضح أن تناغماً آخر يسود فضاءها، ليس سكونياً، بل حركي ومتغيّر باستمرار؛ يعطي انطباعاً مراوغاً بأن اللوحة تَنْتَجِز في الحاضر الآني، وليس في زمن منقضٍ سلفاً. سيمفونية الألوان والأشكال تَعزف فصولها الأربعة دفعة واحدة في الهواء الطلق، ولا يوجد مؤشر زمني على انتهائها. هذا التناغم الحركي ليس نتيجة اختيار ألوان متقاربة من الأسود والأبيض والبني والرمادي والأصفر والوردي... بل نتيجة لقاءٍ نادر، تديره فقط اليد المحترفة التي تسحب بمكشطتها، على القماش، طبقاتٍ سميكة من الصباغة، تتحوّل في بعض الأماكن إلى عجينة ناتئة، تحفِّز على اللمس. لا سكونية المشهديّة بخطوطها العمودية والأفقية توحي أننا إزاء زخّةِ ألوانٍ مفاجئة، تنهمر في الفراغ، مصحوبة بزوبعة من الظلال والأضواء الكثيفة. ورغم أن الألون تبدو ذائبة وممتزجة، إلا أنها تحتفظ بخاصّيّاتها بحيث يسهل تمييز الأبيض في الأسود أو البني في الرمادي أو الوردي.

يسرد فؤاد بلامين هذه الحكاية من طفولته: في عمر الثانية عشرة، أعدّ الطفل متحفاً فنّياً متخيّلاً، كمدونة صغيرة للذائقة الفردية والخيارات المينيمالية العفوية، عبر تجميع قصاصات اللوحات العالمية التي تزيّن قاموس "لاروس" الموسوعي. بهذا الإجراء العاشِق "فعلَ التقطيع والتجميع"، يتموقع الطفل، من دون وعي مسبق، في تماس مباشر، حميمي ومستمر، مع حركة الفن في العالم منذ أقدم العصور. طبقاً لما يقوله أندريه مالرو في شهادته حول بيكاسو: "لا يتعلّق الأمر بمتحف الانتقاءات الفردية، بل بمتحف الأعمال التي تختارنا أكثر ممّا نختارها. ذلك المتحف المتخيَّل الذي لا يمكن أن يُوجَد إلا في ذاكرتنا (...) التحوّل هو روح المتحف المتخيَّل".

بلامين
جانب من الأعمال المعروضة (متحف الفن الحديث والمعاصر)

المسار الزمني المقترح للمعرض، بأقسامه الستة، يسمح بتتبّع حركية هذا "التحوُّل" الفني الذي طبع تجربة الفنان، منذ عرضَ لأوّل مرّة عام 1972، وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين، في رواق "لاديكوفرت" بالرباط، أعمالاً فنية تجريدية، "بتأثير من مشهديات نيكولا دو ستايل"، مروراً بالمرحلة الباريسية التي "أسّست لمشروعه الفني" في الثمانينيات، حتّى مرحلة النضج في التسعينيات، وانتهاءً بمرحلة التكريس منذ بداية الألفية الثانية حتى يومنا هذا. المتأمّل في هذا المسار الفني يستكشف إصرار الفنان على تحويل الصباغة الفنية إلى فضاء متخيَّل على الدوام، فضاءٍ ذهني مجرّد يحتفي باللون والضوء، يسائل الزمن وحركة الفنّ التي تبرره، بما فيها الصباغة الفنية ذاتها. هكذا، سيعيد فؤاد بلامين إنتاج وتدوير المينيمالية التي مارسها من دون وعي منه في متحفه الصغير المتخيَّل، منفتحاً على ثقافته الأكاديمية الواسعة، من خلال استقرائها ومساءلتها، وفحص مدى استجابتها، مواءمتها لشروط التجربة الداخلية في علاقتها مع العالم الخارجي، بعيداً عن أي نرجسية للذات، أو أي نوستالجيا مستغرِقة عاجزة، من أجل إنشاء معجم جمالي متقشّف، يجنح تدريجاً إلى البساطة والتجريد لمقاربة المكان/الأصل.

رحلة الفنّ، كما نلحظ في أعمال فؤاد بلامين، ليست "بحثاً عن الزمن المفقود"، بقدر ما هي بحثٌ عن المكان. هذا المكان ليس مفقوداً، على العكس تماماً: إنه هنا، طاغي الحضور، فائضٌ على الهامش. لكنه ليس متاحاً سلفاً للرؤية بالسهولة الموهومة التي نعتقدها. وإصرار الفنان على العودة إلى هذا الشيء المرئيّ باستمرار في أعماله الفنية، يضع حتى إدراكنا البصري للأشياء موضع تساؤل. كذلك لا يجب أن ننسى أن المكان المُراكَم، هنا، مراكَمَةٌ جدلية للزمن أيضاً، ما يجعل مهمة تأدية هذه الجدلية الزمكانية شائكة للغاية. ألم يقل ابن عربي إن "الزمان مكانٌ سائل والمكان زمان متجمّد"؟ ما الذي نراه حقّاً عندما ننظر إلى الجدار الماثل أمامنا، عائماً في هالة الشمس؟ وهل تستطيع عبور هذا المجرى البصري مرّتين بالرؤية نفسها؟ ألا تمتزج الرؤية في أغلب الأوقات بالرؤيا؟ بالنسبة إلى الفنان، يطرح الأمر كثيراً من الأسئلة النظرية والمراجعات العملية، فالرسم أو الصباغة الفنية "نشاطٌ ذهني" (دافنشي).

يولد الفنان في وقت مبكّر أو متأخر، عند فقدان صورةٍ ما. ثمّة دائماً صورة مفقودة، عاجلاً أو آجلاً، وتسعى الممارسة الفنية ليس إلى استعادتها، لكن إلى إنتاجها من جديد. وقد يمضي الفنان عمراً بأكمله، بحيث يمكن اعتبار مجمل الأعمال المنجزة مجرّد تمرينات للإحاطة بتفاصيل الصورة المفقودة التي تزداد مع مرور الوقت شفافية ونقاوة، موغلةً في صمتها وكتمانها. بشكل أو آخر، يشبه قدر الفنان رجل الحكاية الصينية القديمة، الذي فقد أمّه في سن صغيرة، وعاش طوال حياته يبحث عنها، وعندما أسعفه الحظ بلقائها لم يستطع أن يخبرها أنه ولدها، لأنه كان يعاني من عجز في النطق. ومَن يدري، ربما كان صحيحاً مُعافى، إلا أنّ صدمة اللقاء عقلت لسانه بالكامل حتى ظلَّ ملاحِقاً للصورة، وحدها، دون أصلها.

التزام روحاني ومادّي يحاول رسْمَ فعْل العبور في الأشياء

عاش فؤاد بلامين طفولته في مدينة فاس العتيقة. يمكننا تخيُّل الطفل الصغير يتجوّل في الأزقّة الضيّقة التي لا تتّسع لأكثر من عابر، مراوحاً في متاهاتها ودهاليزها، غير متضايق ربما من فسح الطريق لعابر مثله في الاتجاه المعاكس بين وقت وآخر، أو إلصاق ظهره بالحائط كي تمرّ البغال المحمّلة بصناديق الكوكا كولا. لكن أكثر شيء كان يحيّر الطفل وقتئذٍ هو تعاقب حركة الظلال والأضواء بغرابة مُرْبكة، في هذه الأمكنة الساحرة التي تفوح منها رائحة الخشب والجير المتقشّر. وعندما كان يرفع عينيه إلى الأعلى لتحديد مصدر الضوء المتسلّل إلى هذه الأزقّة التي تهيمن عليها الظلال السميكة والرطوبة المنتشرة، لم يكن يرى في الغالب سوى الجدران العالية بنوافذها ومشربيّاتها، تكاد تتلامس أو تتلاصق من شدّة تقلّص الفُسَح الكافية بين المنازل القديمة. وأحياناً كثيرة كان يشعر بالدوار بينما يرى إلى هذه العمارة العتيقة المعلّقة في الفراغ، تكاد تسقط فوق رأسه الصغير.

لكن مهما بلغت كثافة الظلال، كانت الأضواء تنفذ مثل الأسرار بسكاكينها في لحم الحيطان، وتتناثر شفراتها اللامعة على أرضية البلاط، متكتّمة على مصادرها، كأنّما يشاهد فصولَ مكيدة عذبة متكرّرة. ربما لم يكن الفنّان الصغير يجد ملاذاً لهذه التجربة إلا في تدوينها في القاموس، بقصّ رسوماته ولوحاته وتجميعها. لكن، مع مرور السنين، سينقل فؤاد بلامين هذه الدراما الصامتة إلى فضاء اللوحة لمسرحتها، عاثراً على خزّان الضوء الذي لا يُسْتَنفد، جاعلاً منه محلّ إقامةٍ دائمة، ومادّة أعماله الفنية.

لوحة
من المعرض (متحف الفن الحديث والمعاصر)

"حيثما يوجد فرح، يوجد إبداع"، يقول بيرغسون في "الطاقة الروحية". ويمكن أن يُضاف: "ويوجَد ضوءٌ أيضاً". فؤاد بلامين، رغم قلقه الوجودي، يمارس صباغة ثريّة، بطبقات سميكة وبأحجام كبيرة، بألوان متجاورة ومتعارضة، وفقاً لوحدات متساوية من العتمة والصفاء، تتيح استشفاف الضوء حتى في طيّات الظلال الغامقة، في جوٍّ من الفرح العارم، يقذف بالفنّان خارج حيّز الذات، راكضاً وراء مخيّلته المترحِّلة في شطح الأمكنة، من أجل هدف أسمى: إضاءة اللوحة. هذه "الإضاءة" ليست قيمةً جمالية في حدّ ذاتها، بل التزامٌ روحاني ومادّي يحاول ما أمكن رسمَ سَريانِ فعلِ العبورِ في كلّ شيء، على وتيرة مونتاين في "المحاولات"، وهو الذي"لا يرسم الكينونة... [إنما] يرسم العبور".

اتّسمت أعمال فؤاد بلامين الأولى بأفقية تعبيرية "تكسرها خطّية عمودية"، متوازية، "تخلق أسطحاً أمامية"، ثم انتظمت حركة اللوحة على شكل أقواس معمارية، مبشِّرة بميلاد القبّة في لغةٍ صوفية مترقرقة، مهّدتْ لظهور مجسّم الضريح بطريقة رمزية في "موائد الآلهة". صالة المعرض الأخيرة تقترح جولةً موازية لهذا المسار الزمكاني الممتدّ، في استعادة لهندسة المتاهة المظلمة بدهاليزها الطويلة ومجسّماتها المستطيلة الكبيرة؛ جولة تفضي في الأخير إلى ما يبدو عملاً واحداً مؤلَّفاً من الأعمال المعرض؛ عملاً رمزياً عائماً في إضاءة كاشفة: لوحة مزدوجة على شكل كتاب مفتوح مُضيء. الصفحة الأولى بيضاء شفّافة وخافتة، والصفحة الثانية مقطع صغير من الأضرحة البيضاء المتراصفة. لا شكّ في أنها مجرد فسحة ضوء واستراحة بين صفحتي زمن.

"رحلة البحث عن الضوء" لا تنتهي، بحسب شهادة الفنان نفسه، الذي يؤكّد أنّه لا يستطيع النوم "حتى يومنا هذا في غرفة غير مفتوحة النافذة". وحتى يومنا هذا أيضاً، لا يزال فؤاد بلامين ذلك الطفلَ الذي يتطلّع إلى الأعلى بعينين تسندان معماراً آيلاً إلى الانهيار، مفتوناً في هذه المتاهة اللامتناهية، مُمْسِكاً بمكشطة الدّهان ووعاءٍ مليء بالصباغة، بينما يتسلّق جداريةً هائلة، تتعاقب الألوان والظلال والأضواء على ترميمها دفعة واحدة.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون