غسّان كنفاني: في القصّة كما في الحياة

08 يوليو 2024
صورة للشهيد غسّان كنفاني في مكتب بسّام أبو شريف بمقر مجلّة "الهدف" في بيروت، 1973 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **عبقرية غسان كنفاني الأدبية**: غسان كنفاني، الروائي الفلسطيني، تميز بأسلوب قوي ولغة بارعة، مما جعله مصدر إلهام للعديد من الكتّاب. اغتياله يعكس خطورته كأديب ملتزم بقضيته، حيث جمع بين الفنّية العالية والنضال السياسي.

- **رمزية الطائر في قصص كنفاني**: في "جُدران من الحديد"، يرمز العصفور الحبيس إلى الإنسان الفلسطيني الذي يرفض الترويض والاستسلام، ويستمر في نضاله من أجل الحرية رغم القيود.

- **تأثير كنفاني على القضية الفلسطينية**: كنفاني كان رمزاً للنضال الفلسطيني، وأعماله الأدبية والسياسية ألهمت أجيالاً من الكتّاب والمثقفين، واغتياله كان محاولة لإسكات صوته الحرّ.

ما يصنع عبقريةً أدبية هي أدواتٌ يمتلكها المُبدع، وتأتي من داخل صنعة الفنّ، مثل الأسلوب واللغة، أو اجتراح أشكالٍ أدبية، أو إيجاد معادل فنّي لواقع شائك. كما أنّ العبقريات الفارقة هي نتاج لتراكم تلال الأعمال والتجارب والمدارس الأدبية، وجيوش موظّفي الأدب، وتأتي لتقطف حصاد من سبقها. تمثّل العبقريات المشهود لها ثقافة عصرها، وتُطلّ على آخر. وتمثيلها لما هو أوسع منها مبنيّ على أساس فنّي، على نصوص قوية بارعة، تختزل تجارب كبيرة، وتلهم كتّاباً آخرين.

على مستوى الثقافة العربية، إخال أنّ الروائي والقاصّ والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني (1936 - 1972)، الذي تُصادف اليوم ذكرى اغتياله على يد الاحتلال الإسرائيلي، واحدٌ من تلك العبقريات التي عرفتها الثقافة الفلسطينية، والعربية كلها، إذ يكفي قراءة قصّة من قصصه ليجد القارئ لديه صلابة الموضوع واختزال الفكرة وإشارتها إلى ما هو أوسع منها.

لا حاجة إلى الاستدلال الأدبي طويلاً لتأكيد أهمّية كنفاني الفارقة، إذ ليس أمضى من اغتيال الصهاينة له إشارةً إلى خطورته بوصفه أديباً ألمعياً، وفنّاناً، وقلماً حرّاً شغوفاً بعدالة قضيته، إلى جانب نضاله السياسي. تخلص قراءة فاحصة لأدبه إلى أنّ أهمّيته ليست في عدالة الموقف فقط، بل في فنّيته أيضاً، وهما متلازمان في أدب كنفاني.

الطائر الذي استمرّ يضرب بجناحيه الجدران ليس سوى الإنسان الفلسطيني

إذاً، اغتالت "إسرائيل" كاتباً نجماً وهو في السادسة والثلاثين من عمره بتفجير في بيروت. وكان ما يزال لديه الكثير ليكتبه ويقوله نيابةً عن شعبه، خصوصاً أنّه امتلك ناصية الفنّ، وقد جاء من قلب الصنعة الفنّية والتجربة العامّة. بهذا، كان خطره على "إسرائيل" مثل البارود. إذ ليس بعيداً عنه ما قدّمه إدوارد سعيد (1935 - 2003) للقضية الفلسطينية؛ يُضاهي ما قدّمته جيوشٌ عربية كاملة.

دفعتني قراءة قصّة لغسان كنفاني إلى التفكير فيه باعتباره عبقرية محقّقة وأَدها الاحتلال؛ والقصّة التي أُلخّصها الآن منشورة ضمن المجموعة القصصية "عالم ليس لنا"، وهي بعنوان "جُدران من الحديد"، موقّعة في بيروت سنة 1963؛ وتتحدّث عن عصفور حبيس قفص، يضرب الجدران بصورة باسلة بجناحيه، طوال الوقت، من غير أن يهدأ. يقول أحدهم للطفل الذي يأسر العصفور، وقد جاءه هدية من عمّ بعيد، بأنّ العصفور يتعرّف على منزله الجديد، ويحتاج إلى ثلاثة أشهر حتى يعتاد عليه.

يُغيّر الطفل القفص، يُحضر قفصاً آخر أوسع، لكنّ العصفور يستمرّ بطيرانه الغضوب الدائب. ويقول أحدهم للطفل إنّه أخطأ بتغيير القفص، لأنَّه مع المنزل الجديد للعصفور خسر الوقت الذي مضى في اعتياده على المنزل الأوّل. لكن، كان الطفل يهتمّ بأن يُنجز للطائر سكناً واسعاً جميلاً، يدفعه إلى رفض الحرّية إذا ما فتح له القفص يوماً. كان الطفل يحاول رشوة العصفور بالمنزل الجديد الواسع. وما حدث أنّ الحسّون توقّف عن الحركة، ليس لأنَّه ألف السجن، ليس لأنَّه ألف المنزل المسوَّر بالقضبان. وإنّما، مثلما يقول أحدهم للطفل، لأنَّه يحتضر.

لم يقدر الحسّون على اعتياد الحياة داخل القفص، لم يقدر الاعتياد على الحياة المسيَّجة، ورفاهيتُها لا تعنيه. فالحرّية عند الطائر تجربة لا تُعوَّض، لا تُستبدل، لا يُستعاض عنها، ولا يُعتاد على حياة أقلّ منها. الطائر رفض الترويض، مات وهو يضرب بجناحيه الغضّين، ببسالة، جدران السجن الحديدية.

وأنا أبحث عمّن يكون هذا الطائر، لم أجد معادلاً له في قصّة الكاتب الفلسطيني إلّا الإنسان الفلسطيني الذي استمرّ يضرب الأسوار، استمرّ بجناحيه يضرب الجدران التي فرضها عليه الاحتلال. ولا يوجد ما يمنع أن يكون الطائر الذي قتلته محاولاته الوصول إلى حرّيته؛ طفلاً من غزّة أو الناصرة أو القدس، طفلاً قتله الاحتلال.


* روائي من سورية

المساهمون