غسان الجباعي: سيرة المَشقّة

14 اغسطس 2022
(من إحدى مسرحيات غسان الجباعي)
+ الخط -

قبل أسبوع، غادر عالمنا المسرحي السوري غسان الجباعي (1952 - 2022)، وهو كاتب مثالي للتعبير عن حال نموذج من الكُتّاب السوريّين. إذ اقترنت حياته بالمَشقّة؛ مشقّة المنع، ومشقّة أن يعيش الإنسان رهين الحرية المنتظرة والمشتهاة والمترقبة، في ظلّ المنع وتردي الشرط الإنساني.

والجباعي كاتب متعدّد، كتب في المسرح وفي أدب الطفل والقصة والرواية، وله إصدار شعري، أيضاً كتب للدراما التلفزيونية، ومَثّل عدّة أدوار سينمائية، كما عمل في "المعهد العالي للفنون المسرحية" بدمشق. لكنّ كلّ هذه الأعمال المتنوّعة ترافقت مع الصور المتعدّدة للمنع.

درس الجباعي اللغة العربية في "جامعة تشرين"، وحصل عام 1975 على منحة لدراسة الإخراج المسرحي في كييف، وعلى الماجستير في الإخراج المسرحي عام 1981. ثمّ، وفي غضون أشهر من عودته، اعتُقل بتهمة الانتماء إلى "حزب البعث الديموقراطي"، واستمرّ اعتقاله حتّى عام 1991. إذاً، على صعيد التحصيل العلمي أخذ المعتقل مكان الدكتوراه في مسار الكاتب السوري. وقد كتب الجباعي الكثير من أعماله في المعتقل، ونشرها بعد خروجه. حتّى إنّ المعتقل حَوّل مساره الإبداعي من مُخرج مسرحي إلى كاتب.

تبدو الكتابة إحدى الحرف التي قد يتعلّمها السجناء في العالم. لكنّها في سورية كانت حرفة للمكر بالسجّان عبر تقديم سردية مناقضة لسرديته الاستبدادية. على هذا النحو، ارتبطت الكتابة لدى الجباعي بفكرة أنّه سجين يبحث عن سُبل للتعامل مع واقعه. وقد انتهى في سورية ممنوعاً من السفر. بصورة ما، تبدو مسيرته مسيرة للمنع، لكنّها بموازاة ذلك، مسيرة للبحث عن آفاق الحرية. ليس الجباعي ابن الكتب وخشبات المسارح، إنّما هو إبداعياً ابن السجن، وبصورة أكثر وضوحاً إنّه ابن نقيض السجن، ابن سؤال الحرية.

الكتابة إحدى الحرف التي يتعلّمها السجناء للمكر بالسجّان

أخرج الجباعي في سجن صيدنايا مسرحية العنبر رقم (6) همساً كي لا يسمعه السجّانون، واستخدم السجناء ديكوراً، قبل أن يصل الخبر إلى إدارة السجن وتفصل، بالجدران، بين المشاركين في العرض. وقد كتبَ على أوراق السجائر، جرياً على عادة السجناء في صون ذاكرتهم عن الحياة في الخارج. ولو استدعاءً أو مناداة لمذاق العيش. فالكتابة فعل حيّ للإشادة بالحياة وندائها، ولا تقلّ عن التنفّس أو رياضة المشي. 

طالما أنّ السجن هو الدكتوراه الخاصة التي منحتها سورية لكاتبها، فمن البداهة أنّ الموضوعات السياسيّة كانت حاضرة في كتبهِ. وكان المسرح فضاء للحرية والتجريب مقابل فضاء الاعتقال والتقييد الذي عزّزه حكم الحزب القائد. وقد نُشرت كتب الجباعي خارج بلده، وصدر له عن وزارة الثقافة السورية "أصابع الموز" (1994)، لكن الوزارة نشرت الكتاب بعد أن طلبت منه حذف مكان الكتابة "تدمر". فالمكان هنا، هو شهادة السجين بأنّه مَرَّ بدوره، ووقّع أسفل جدار السجن في سجل الهزيمة الإنسانية التي يمثّل السجن السياسي أقسى صورها. كما كتب الجباعي مسرحية "الشقيقة" عن السجون السورية لكنّ مكان الاعتقال جرى تغييره عند تمثيلها.

بالمجمل، تستدعي سيرة الجباعي التوقّف والتأمل، لا لأنّه نموذج نوستالجي لصورة المثقّف اليساري الذي يقارع السجن والمنع من غير أن يغادر بلده، والأهمّ من غير أن يغادر أفكاره. بل لأنّه بالفعل عاش حياته وهو يقاوم المنع ويناوره. ولم تدفع محاولات تحييده عن الحياة الثقافية العامّة، بهِ إلى الانكفاء والعزوف عن الكتابة. وكأنّما عاش حياته بعد السجن برمّتها، وهو يعي أنّ دوره يقتصر على مقاومة قوّة أكبر منه. لكن عبر وعي المقاومة ذاك، كان يحطّم الأسر وينفيه. فالإنسان في النهاية، يعيش ويكتب ويعمل في طريقه إلى الحريّة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية